في قلب مدينة الخليل القديمة في الضفة الغربية، تقع منطقة تحت سيطرة القوات الإسرائيلية تعرف باسم H2. وأصبحت هذه المنطقة التي يسكن فيها قرابة 42,000 فلسطيني وحوالي 700 مستوطن إسرائيلي نقطة اشتعال لعنف المستوطنين، في حين أنّ تحركات السكان الفلسطينيين تخضع لقيود تعيق بشدة وصولهم إلى الرعاية الصحية وقدرتهم على ممارسة حياتهم اليومية.
وفي هذا الصدد، تقول رئيسة بعثة أطباء بلا حدود في فلسطين، ماريتا بروفوبولو، "تعكس منطقة H2 المعاناة اليومية للشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال. وفي الحقيقة، إنّ الوضع هنا سيء لدرجة يصعب تصديقها. ولهذا فإنّ منظمة أطباء بلا حدود لا تسعى إلى تقديم الخدمات الصحية في منطقة H2 فحسب، بل نريد التعبير للناس أنهم يستحقون الاحترام والعيش بكرامة".
الحواجز في الداخل وفي الخارج
تعتبر منطقة H2 واحدة من أكثر المناطق المُطوّقة داخل الضفة الغربية، وذلك بسبب وجود 21 نقطة تفتيش دائمة تديرها القوات الإسرائيلية لتنظيم حركة السكان الفلسطينيين. وتشكّل هذه الحواجز عائقًا كبيرًا أمام السكان وكذلك أمام العاملين في مجال الرعاية الصحية الراغبين في الوصول إلى المنطقة.
وتدير وزارة الصحة الفلسطينية حاليًا مرفقًا طبيًا واحدًا في منطقة H2، لمعالجة المرضى الذين يعانون من حالات حادة. بينما تبقى أطباء بلا حدود المنظمة الطبية الوحيدة المتواجدة في هذه المنطقة. وقد بدأت فرق المنظّمة العمل في منطقة H2 في أغسطس/آب 2021 من خلال تشكيل فريق عمل نسائي بالكامل، يقدّم خدمات طبيّة للنساء والأطفال من ضمنها استشارات الصحّة العامة وخدمات الصحة الإنجابية والصحّة النفسية.
ومن بين القيود المفروضة على الفلسطينيين في منطقة H2، منعهم من قيادة المركبات إلا في حال حصولهم على إذن خاص، مما يصعّب وصولهم إلى خدمات الرعاية الصحّية ويؤدي إلى تداعيات خطيرة خصوصًا على الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة وكبار السن والنساء الحوامل وذوي الحالات الطبية العاجلة الذين يحتاجون إلى رعاية طبيّة.
كما تشمل القيود المفروضة على المركبات خدمات الطوارئ مثل سيارات الإطفاء وسيارات الإسعاف. وفي هذا السياق، أخبرت مريضة فريق أطباء بلا حدود أنّ أبناء أخيها الثلاثة، ومن بينهم رضيعة، قُتلوا جراء اندلاع حريق في منزلهم بعد أن رفض الجنود الإسرائيليون السماح لمركبات الإطفاء بدخول منطقة H2 وإخماد الحريق، على الرغم من مناشدات الأهالي.
وفي ظلّ محدودية الخدمات الطبية المتوفرة في منطقة H2، يضطر السكان إلى المرور عبر نقاط التفتيش للوصول إلى المرافق الصحية المتاحة خارج المنطقة، لكن ذلك ليس متاحاً دائماً. فعند وقوع اشتباكات بين السكان الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين أو مع القوات الإسرائيلية، غالبًا ما يتم إغلاق نقاط التفتيش، مما يمنع السكان من مغادرة المنطقة أو الدخول إليها.
وعن تلك المعاناة، قالت امرأة تبلغ من العمر 23 عامًا لجأت إلى منظمة أطباء بلا حدود لتلقي الرعاية الطبية بعد تعرضها لمضاعفات أثناء الحمل، "لا يمكنني الذهاب إلى طبيبي لإجراء الفحوصات الدوريّة للحمل بسبب الاشتباكات التي تقع يوميًا بالقرب من نقطة التفتيش. فعندما أحاول مغادرة منطقة H2 لاستقلال سيارة أجرة، أشم رائحة الغاز. لا يمكنني زيارة الطبيب في مثل هذه الظروف".
وفي داخل منطقة H2، غالبًا ما يُمنع الفلسطينيون الذين يعيشون بالقرب من المستوطنين الإسرائيليين من التنقل بحرية، حتى في الحي الذي يسكنون فيه، وذلك بسبب حظر الوصول إلى شوارع معينة وضرورة الخضوع لعمليات تفتيش أمنية متعددة. ويتعين على بعض سكان المنطقة المرور عبر حوالي أربع نقاط تفتيش للوصول إلى عيادة أطباء بلا حدود، بينما لا يتمكن الآخرون من الوصول إليها على الإطلاق.
إنّ حياتنا مليئة بالمعاناة، فقد داهمت القوات الإسرائيلية والمستوطنون منزلنا عدّة مرات. وأخشى دومًا أن يتأذى أطفالي على يد الجنود أو المستوطنين.مريضة أطباء بلا حدود
لا أمان في أي مكان
إلى جانب تقييد وصولهم إلى الرعاية الصحية، فإنّ الوضع الأمني في منطقة H2 يؤثّر سلبًا على الصحة النفسية للسكان الفلسطينيين، البالغين منهم والأطفال على حد سواء. إذ تتعرض العديد من منازل الفلسطينيين لعمليات اقتحام ليلية من قبل القوات الإسرائيلية، التي تستولي مؤقتًا على أجزاء من منازلهم. ووفقًا لاستبيان قامت به إحدى منظمات الأمم المتحدة، تمّ تفتيش 75 في المئة من الأسر الفلسطينية في منطقة H2 على يد القوات الإسرائيلية بين عامي 2015 و2018، وفي ثلث هذه الحالات، تعرض أحد أفراد الأسرة للاعتداء الجسدي. وخلال الفترة نفسها، أفادت واحدة من كل خمس أسر شملها الاستبيان عن تعرض الأطفال للاعتقال على يد القوات الإسرائيلية.
وهذا ما تؤكّده شهادة امرأة، وهي أمّ لأربعة أبناء وابنتين تبلغ من العمر 41 عامًا، حيث قالت لمنظمة أطباء بلا حدود، "إنّ حياتنا مليئة بالمعاناة، فقد داهمت القوات الإسرائيلية والمستوطنون منزلنا عدّة مرات. وأخشى دومًا أن يتأذى أطفالي على يد الجنود أو المستوطنين، لذا فأنا أعيش في حالة من القلق المستمر. وعندما يخبرني أطفالي أنهم رأوا جنودًا أو مستوطنين في الجوار، أشعر بالخوف الشديد. دائمًا ما أنتظر بفارغ الصبر عودتهم من المدرسة، لأغلق باب منزلي واحتمي بداخله".
وبحسب تشخيص فريق الصحّة النفسيّة في منظمة أطباء بلا حدود، يعاني بعض الأطفال الذين يزورون العيادة من أعراض القلق، ما يؤثر على تفاعلهم مع عائلاتهم ومع الأطفال الآخرين. أمّا بالنسبة للبالغين، فمنهم من يعاني من حالات نفسية متوسطة أو شديدة، بما في ذلك الاكتئاب والقلق وصعوبات في العلاقات الشخصية.
ونتيجة للقيود المفروضة على التنقّل ومحدوديّة خدمات الرعاية الصحية المتوفرة في منطقة H2، قررت منظمة أطباء بلا حدود توسيع نطاق خدماتها في أكتوبر/تشرين الأول 2021. وكان ذلك استجابةً للارتفاع الحاد في عدد المرضى الذين يلجؤون إلى أطباء بلا حدود للحصول على خدمات الرعاية الطبية. فبين أغسطس/آب 2021 ومايو/أيار 2022، عالجت منظمة أطباء بلا حدود 5,135 مريضًا، يشكّل الأطفال دون سن الخامسة عشرة نصفهم تقريبًا. وفي الفترة نفسها، قدّم فريق أطباء بلا حدود الدعم النفسي لـ 989 شخصًا.
وتقول منظمة أطباء بلا حدود إنّه لا تزال هناك حاجة لزيادة الخدمات الطبية في منطقة H2. وتضيف بروفوبولو، "رغم أن التحسّن الجذري في وضع سكان منطقة H2 مرتبط بمعالجة القيود المفروضة عليهم على المدى الطويل، إلا أننا ندعو إلى زيادة خدمات الرعاية الصحية في منطقة H2 وتعزيزها لتسهيل وصول السكان إليها مما قد يساهم بالتخفيف من معاناتهم اليومية".