أنشئ موقع حماية المدنيين في ملكال أوائل عام 2014 لتوفير الحماية المؤقتة لسكان المنطقة الذين علقوا وسط الحرب في ولاية أعالي النيل في جنوب السودان. لكن بعد مرور أربع سنوات، أدت صعوبة ظروف المعيشة وفقدان الأمل والشعور بالتقييد وكذلك محدودية فرص كسب العيش إلى أضرار بالغة في الصحة النفسية لأولئك العالقين في الداخل. غير أن مغادرة الموقع ليست بعد خياراً أمام معظمهم.
تدير منظمة أطباء بلا حدود خدمات صحة نفسية داخل الموقع.
في زاوية الجناح الرئيسي تسقط امرأة شابة فجأة على الأرض وهي ترتعش. على الفور يهرع طاقم المستشفى إليها للحؤول دون أن تلحق بنفسها الأذى. تقوم ممرضة بإغلاق الستارة لتأمين بعض الخصوصية. يقول الأخصائي النفسي في المستشفى الدكتور جايرام راماكريشنان: "أصيبت بنوبة نفسية المنشأ. وهذا مشهد قد بات مألوفاً بما يكفي في المستشفى. فالخوف والقلق من العيش عالقين في موقع حماية المدنيين يكونان أكبر من أن يتحملها الكثير من الناس".
في سنة 2017 وقعت 31 محاولة انتحار وسبعة حالات انتحار. وشهدت نهاية العام ارتفاعاً حاداً بلغ 10 محاولات انتحار في شهر واحد.
ويتابع د. راماكريشنان: "يواجه معظم السكان ظروفاً كئيبة مزمنة، فمعظم الرجال لن يغادروا المخيم خوفاً من تعرضهم للهجوم أو إجبارهم على الانضمام إلى إحدى المجموعات المسلحة".
أنشئ موقع حماية المدنيين عام 2014 بعد أن أجبر القتال الدائر في ملكال الكثير من الناس على الفرار من بيوتهم. وكانت أولوية قوات الأمم المتحدة في جنوب السودان التي أنشأت المخيم تأمين مساحةٍ يمكن للناس أن يستقروا فيها مؤقتاً. لكن لم يكن تحسين معايير العيش في المخيم أولوية مباشرة. غير أن السنين مرت ومع مرورها أدركت سلطات المخيم بأن موقع حماية المدنيين باقٍ ولن يزول في وقت قريب. وثمة توجه نحو تحسين الظروف ببطء إلا أن الخيارات محدودة.
يعيش اليوم 25,000 إنسان في مساحة ضيقة جداً ومعظمهم أطفال. وتقل في بعض أجزاء المخيم مساحة العيش للفرد الواحد عن 17 متراً.
أصعب الأوقات التي تمر على المخيم تكون خلال موسم الأمطار، بين يونيو/حزيران وأكتوبر/تشرين الأول، حين تتحول تربة القطن السوداء إلى طين كثيف وتتحول أرضيات أكواخ الناس إلى برك مياه.
ويضيف الدكتور راماكريشنان: "نظراً للعنف الذي مر فيه الناس، فإننا نتوقع أن نرى الكثير من حالات اضطراب ما بعد الصدمة. لكنني أرى هنا صورة مختلفة.
"فبرغم ظروف العنف إلا أن الناس سريعو التكيف وينجون دون أن يلحق بهم ما يشاع من علامات اضطراب ما بعد الصدمة. لكن بمرور الوقت وفي مواجهة كونهم عالقين في ظروف العيش الراهنة دون أي تحسن في حياتهم، يشعرون باليأس".
يضع الاختلال النفسي الناس في سجن ذهني، إذ ينفصلون عن العالم الواقعي. ويمكن أن نرى هؤلاء الأفراد المنعزلين يسيرون وقد هاموا على وجوههم، بينما يكافحون للتعامل مع واقع الحال. وبسبب الانعزال ترى أن كثيراً من هؤلاء ليس لديهم أسرة تمنحهم الدعم العاطفي.
يصعب تحديد عدد دقيق للذين يعانون من مشاكل نفسية في موقع حماية المدنيين، غير أن فرق أطباء بلا حدود تستقبل ما بين 18 إلى 20 إصابة نفسية خطيرة كل شهر. وهذا لا يشمل الذين لا يفطن لهم أحد أو لا يلجؤون لطلب العلاج لمشاكلهم النفسية. ووجدت نتائج توصل إليها مختصو الصحة النفسية في مجموعة عمل جنوب السودان، التي تساعد في تنسيق الأنشطة، بأن حوالي نصف حالات الصحة النفسية في عام 2017 كانت مرتبطة بالاكتئاب و15 بالمئة مرتبطة بالقلق.
يعد خطر العنف عاملاً حاضراً بشكل دائم ويزيد من التوتر. ففي فبراير/شباط 2016، لقي 25 شخصاً حتفهم حين اندلع قتال في موقع حماية المدنيين، كما أصيب آخرون كثر بجروح بليغة في حين التهمت النيران ثلث المخيم.
يحاول بعضهم إيجاد العزاء في ماريسا، وهو كحول محلي يصنع من الذرة البيضاء. يشيع إدمان الكحول في المخيم ويلعب دوراً في مشاكل صحية على غرار ارتفاع الضغط وتقليل المناعة الطبيعية تجاه أمراض مثل السل.
قد يساعد روتين وأعمال الحياة العائلية بعض النساء، غير أنهن يعانين من خوف مستمر من العنف الجنسي الذي يتربص بهن حين يغادرن أمان المخيم. ومن مصادر الرزق القليلة للنساء جمع الحطب خارج بوابات المخيم.
وتقول نتاليا رودريغز، أخصائية علم النفس التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود في موقع حماية المدنيين: "كثيراً ما يتعرضن للهجوم والاعتداء الجنسي. وقلة منهن يأتين إلى منظمة أطباء بلا حدود لتلقي المشورة أو لإجراء فحوص طبية. فهن خائفات، إذ أن النساء اللواتي يتعرضن للاعتداء نادراً ما يتزوجن".
تنتهي الطفولة مبكراً في موقع حماية المدنيين. وخلال النصف الثاني من سنة 2016، لفتت أعداد حالات محاولات الانتحار وحالات الانتحار بين الأطفال اهتمام سلطات المخيم، وأدت إلى تجديد العمل على هذه المسألة.
لكن للأسف، غالباً ما لا تلقى معاناة الأطفال آذاناً صاغية. وحتى داخل الأُسَر يتعامل الأهالي بشكل سلبي مع علامات التوتر العاطفي كالعدائية وتبليل الفراش. ويمكن أن يعاني الأطفال من الاستغلال والإهمال والجوع دون أن يلاحظها أحد ويمكن أن تؤدي إلى تغيرات سلوكية.
يمكن رؤية الأطفال المهمَلين والأيتام في الشوارع وأحياناً تراهم يأكلون من القمامة، إذ لا يحصل هؤلاء الأطفال على حصص من المواد الغذائية. وهنا أيضاً، يكون الكحول وسيلة للهرب ويمكن أن يفضي إلى سلوك عنيف.
من جهتها تقول نتاليا رودريغز: "يمكننا من خلال علاج السلوك المبني على المعرفة مساعدة الناس في تعزيز مهارات التأقلم حين يعانون من حالات كالاكتئاب، الأمر الذي يساعدهم في نهاية المطاف على تحديد المحفزات الذهنية على الاكتئاب وإيجاد استراتيجيات للتقليل منها".
ويقول الدكتور جايرام راماكريشنان: "لا أحد يعلم متى ستتحسن الأوضاع في أعالي النيل ليتسنى لهؤلاء الناس العودة إلى بيوتهم".
ويتابع: "في هذه الأثناء، يتعين على سلطات المخيم القيام بأكثر من مجرد تأمين الغذاء والماء، وعليهم مجابهة عدم كفاية المساكن وبناء استراتيجيات لتعزيز التفاعل بين أفراد المجتمع وخلق فرص عمل أكبر في المخيم. في الوقت الحالي تعتبر الموارد البشرية المختصة في الطب النفسي والإرشاد النفسي في المخيم غير كافية للتعامل مع هذه الأعداد الكبيرة من الناس الضعفاء".