Skip to main content
Covered in the blood of those who risked their live - North Homs

"الإمدادات الطبية تغطيها دماء من جازفوا بحياتهم لإيصالها إلى هنا"

الدكتور أ. مدير أحد أهم المستشفيات الميدانية في منطقة الحولة الواقعة شمال حمص والتي يقطنها حوالي 90,000 نسمةٍ تحت الحصار.

لقد كانت مجزرةً بالنسبة لنا حين قُتل 100 شخصٍ أغلبهم من الأطفال والنساء بعد ظهر أحد أيام مايو/ أيار 2012. كان يوماً رهيباً، لكنّ الأمور تزداد سوءاً في الحولة. فالأخبار كانت تتحدث عن ’قصفٍ متقطعٍ‘ لكنه لم يكن يتوقف. كل ما هنالك أننا كنا نميز بين قصف المدفعيات الثقيلة والخفيفة".

"لقد أقمنا هذا المستشفى الميداني من لا شيء. نقدم الرعاية للحالات الطارئة إلى جانب عددٍ من الخدمات، بما فيها خدمات الرعاية الصحية الأولية والجراحة. لدينا عددٌ قليلٌ من الأسرّة التي لا تفرغ أبداً".

"خلال شهر يناير، بلغ عدد البراميل المتفجرة 50 برميلاً في أسبوع واحد. تُصارع المستشفيات الميدانية في المنطقة من أجل التعامل مع الأعداد الكبيرة من المصابين وتبذل كلّ ما في وسعها في ظل قلّة الإمدادات والكوادر الطبية. ورغم أن الجميع يعرفون بعضهم بعضاً في القرى، إلا أنه يصعب التعرف على الجثث المقطعة الأوصال. قمنا بالعديد من الجراحات وعددٍ أكبر من عمليات البتر".

"لا نتوفر اليوم إلا على جرّاحٍ واحدٍ للجراحة العامة وآخر لجراحة العظام لمنطقة الحولة برمتها، أي لأكثر من 90,000 نسمة".

"ونظراً لمواردنا المحدودة، فإن الأولوية القصوى بالنسبة لنا تظلّ توفير الدواء والمعدات التي نحتاجها في الجراحة ورعاية الحالات الطارئة. وغالباً ما نعاني الأمرين من أجل الحصول على مواد أساسية كالضمادات أو مواد أكثر تعقيداً كمستلزمات التخدير. كما لدينا أيضاً مرضى كثرٌ يعانون من أمراض مزمنة، وأطفالٌ يعانون من أمراضٍ تنفسية، ونساءٌ حوامل يحتجن إلى متابعة. لا أحد يتوفر على المال لزيارة الطبيب أو شراء الأدوية، فالكل يعاني فقراً حقيقياً اليوم".

"إن منطقة الحولة محاصرةٌ من كل الجهات ولا شيء يمرّ من خلال نقاط التفتيش، حتى رغيف الخبز في بعض الأحيان".

"من الصعب جداً إيصال الإمدادات إلى شمال حمص، أما بالنسبة للحولة فالأمر مستحيل. ورغم أن المنطقة سهليّةٌ من الناحية الجغرافية، إلا أنها محاطةٌ بالجبال ونقاط التفتيش. فهي في الواقع أقرب ما تكون إلى جزيرةٍ حوصر داخلها 90,000 شخصٍ حصاراً أشد حدةً من الحصار العام المضروب على شمال حمص".

"منذ ثلاث سنوات لم يعد من الممكن الوصول إلى المنطقة بالسيارات عبر الطرق المعتادة. وسواء تعلق الأمر بالغذاء أو الأدوية أو الوقود، لا يمكن المرور إلا عبر طريقٍ وعرةٍ وموحلة، مشياً على الأقدام أو على ظهور الحمير، أو من خلال مراكب صغيرةٍ عبر بحيرة الحولة. ليس هناك سوى طريق واحد للإمداد نسميه طريق الموت بسبب تربص القناصة. فكل ما يصلنا تغطيه دماء من جازفوا بحياتهم لإيصاله إلى هنا".

"بفضل مساعدات منظمة أطباء بلا حدود، يمكننا على الأقل الاعتماد على بعض الأدوية التي تغطي أكثر من نصف احتياجاتنا. لكننا لا زلنا نعاني باستمرار من نضوب المخزون. لا يمكننا أن نخزن الأدوية، فنحن في وضع استهلاكٍ يوميٍّ دائماً. ولما كان الحصول على علبة دواء واحدة كل مرة هو الخيار الوحيد الممكن، فما المقدار الذي يمكننا تخزينه من أجل 90,000 نسمة؟".

"يشرب الناس المياه الملوثة، ثم يقصدون المستشفى طلباً للعلاج. في الماضي، كانت الحولة تشتهر بمحاصيلها الزراعية، إلا أن الخروج للحقول وزراعة الأرض أضحى اليوم محفوفاً بالمخاطر. أما المعروض من السلع الأساسية، فيفوق الطاقة الشرائية لمعظم السكان. يعاني الوافدون إلى المستشفى من أمراضٍ سببتها المياه غير النقية والتغذية السيئة".

"هناك أيامٌ تتوفر فيها الطاقة الكهربائية لساعتين، ثم تختفي لأسابيع. يعمل المستشفى على المولدات، ويضم السريرين الوحيدين المخصصين لحديثي الولادة في المنطقة برمتها. أحياناً نضطر لوضع رضيعين في سريرٍ واحدٍ، وهو أمرٌ غير مقبولٍ طبياً. لكن ليس أمامنا أيّ خيارٍ آخر".

"لقد تعرض المستشفى الذي أعمل فيه للقصف ثلاث مرات، كان آخرها منذ سبعة أشهر. كانت الطائرات الحربية تحلق على ارتفاعٍ منخفضٍ، لكن القصف الذي استهدف المستشفى أصاب مبنى مجاوراً وقتل شخصين. لهذا السبب تتوزع الأقسام الطبية على أكثر من مبنى، حتى لا نخسر كل شيءٍ في لحظات".

نستقبل المرضى ليل نهار. تبدو الأيام طويلة جداً، ولا نرى إمكانية القيام بأيّ نشاطٍ آخر غير العمل إلا في أحلامٍ بعيدة المنال. غير أنني أحاول قضاء بعض الوقت مع الأصدقاء والأهل كلما سنحت الفرصة. أحاول أن أسترجع ذكريات الأيام الجميلة التي عشناها في الماضي وأُمنّي النفس بعودة تلك الأيام. هذا ما يمدني بالقوة للمضي قدماً".

"لم أصدق حين فتح عينيه"

"تتعدد القصص وكلها تدمي القلب. لن أنسى أبداً ذلك الستّيني الذي توقف قلبه. استعملنا أبسط الأجهزة لإنعاشه ومساعدته على التنفس، فأجهزتنا قديمة جداً. ظلّ الرجل في غيبوبةٍ ليومين ونصف وتناوب أعضاء الفريق ليلاً لمساعدته على الاستمرار في التنفس بواسطة جهازٍ يدويٍّ قديم، عبارةٌ عن كيسٍ نضغط عليه لندفع بالهواء داخل رئتيه. لم أصدق حين فتح عينيه وطلب رؤية زوجته. لم أصدق أنه استفاق من غيبوبته ولم يفقد دماغه وظائفه. لا زال الرجل يعيش في الحولة. أحاول أن أتذكر قصصاً مثل هذه. ربما بعد أن تضع الحرب أوزارها، سيترك بعض الأطباء مهنة الطب. لقد رأينا الكثير،  ويصعب علينا قبول الأمر واستيعابه.