غالبًا ما ينحدر الموظفون المحليون في منظّمة أطباء بلا حدود في كركوك من المناطق التي تعمل فيها المنظمة - أو يكونون في الواقع من سكان مخيم ليلان نفسه. في ما يلي، نرافق اثنَين منهما في سردٍ يوثّق الظروف المعيشية داخل المخيم والآثار المترتبة عن كوفيد-19 في العراق.
بالاستماع إلى شهادتيْهما، يتّضح أن الظروف المعيشية المتردّية في المخيم تتفاقم بسبب تأثير مرض كوفيد-19 على البلد - ما يجعل الوضع أشدّ سوءًا. يشعر كلاهما بالقلق البالغ إزاء الضغط الاقتصادي المتزايد على النازحين، وإزاء استحالة الالتزام بالتباعد الجسدي داخل المخيم. ويعتبران أن فئة النازحين هي الأكثر عرضة للآثار الصحية والمالية الناجمة عن جائحة كوفيد-19 في العراق.
في حين يقطن حميد في المخيم ويعايش الواقع المرير الذي يختبره السكان، تنحدر نرمين من مدينة كركوك وتزور المخيم بانتظام. يعمل كلاهما في فريق أطباء بلا حدود للتوعية الصحية في مخيم ليلان، وغالبًا ما يقابلان سكان المخيم ويستمعان إلى الهواجس التي تخالجهم خلال جلسات التوعية الصحية. وقد قام كل منهما بدورٍ مهمٍ في تثقيف السكان حول المرض خلال جائحة كوفيد-19.
قصة حميد: الفرار من الدّيار وملازمة المخيم حتى إشعار آخر
كما هو حال العديد من سكان المخيم، هربت من مسقط رأسي - ناحية الرشاد في قضاء الحويجة - قبل ثلاث سنوات عندما كانت المنطقة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية.
قمنا بقطع مسافةٍ طويلةٍ سيرًا على الأقدام قبل أن ينتهي بنا المطاف في هذا المخيم، ولم نتمكن حتى الآن من العودة إلى ديارنا. لم يكن الفرار من مسقط رأسنا سهلاً، فقد نصب تنظيم الدولة الإسلامية نقاط تفتيش وفخاخ وأجهزة متفجرة على كافة مخارج المدينة لردع أيّ شخص يحاول الفرار أو للقبض عليه أو قتله. وقد لجأنا إلى طلب المساعدة من المهربين كآخر سبيل للنجاة.
فرض المهرّب الذي التمسنا مساعدته مبلغ 200 دولار أميركي على الشخص الواحد مقابل الرحلة. كنا حوالى 50 عائلة. اصطحبنا إلى خارج المدينة على مقربة من نقطة تفتيش للبيشمركة الكردية حيث تابعنا مسيرنا بمفردنا إلى بَرّ الأمان. وعند نقطة التفتيش، تمّ فصل الرجال عن النساء بهدف التّحقيق. كما تمّ التحقق من عدم ارتباطنا بتنظيم الدولة الإسلامية. وعندما انتهت التحقيقات الأمنية، جرى نقلنا إلى هذا المخيم حيث استعدنا هوياتنا واجتمعنا بعائلاتنا وحصلنا على خيام نعيش فيها. ومنذ ذلك الحين، لم يعد بإمكاننا العودة إلى مسقط رأسنا.
حاليًا، انخفض دخلنا بشكل كبير بسبب تباطؤ وتيرة الأعمال التجارية والحجر الصحي المتكرّر. إذ لا يمكنني أن أهتمّ كثيرًا بحماية نفسي من الإصابة بالمرض. وفي حال وجود أي عمل سأذهب لأن تلبية احتياجات عائلتي أهمّ من حماية نفسي.نازحة عراقية في مخيم ليلان 1 في العراق
الحياة في المخيمات في زمن كوفيد-19
مع وصول الجائحة، أضحى العيش في المخيم أكثر إرهاقًا من ذي قبل بالنسبة إلى معظم السكان. فعلاوةً على الصعوبات الحياتيّة التي تترتّب على العيش في المخيم، تدفع إجراءات الحجر الصحي المتكرّر والقيود المفروضة على الحركة من قبل الحكومة الناس إلى الكفاح من أجل العثور على وظيفة أو عمل يومي.
والآن، ورغم رفع الحجر الصحي، بات العثور على عملٍ أشدّ صعوبة من قبل بسبب الأزمة الاقتصادية – حيث يطال الركود الأعمال التجارية والأسواق، ما أدّى إلى تراجع الطلب على العمّال.
وبشكل عام، يعتمد معظم السكان على العمل اليومي لتأمين احتياجاتهم الأساسية. والآن، وبعد تراجع فرص العمل وانخفاض الأجور، أصبح إيجاد عملٍ لإعالة الأسرة أهمّ من البقاء بأمان في المنزل.
بالأمس قالت لي امرأة، "قبل ظهور فيروس كورونا المستجد، كنت أعمل يوميًا وأجني مبلغًا بين 10,000 و15,000 دينار عراقي (8-12 دولارًا أميركيًا) في اليوم الواحد لتأمين لقمة العيش. ولكن حاليًا، انخفض دخلنا بشكل كبير بسبب تباطؤ وتيرة الأعمال التجارية والحجر الصحي المتكرّر. إذ لا يمكنني أن أهتم كثيرًا بحماية نفسي من الإصابة بالمرض. وفي حال وجود أي عمل سأذهب لأن تلبية احتياجات عائلتي أهم من حماية نفسي".
إعالة الأسرة أَوْلى من إجراءات الوقاية
و إضافة إلى مسؤولي التّوعية الصّحية الذين يزورون المخيم بانتظام لتثقيف العائلات بشأن كوفيد-19، يستطيع معظم الناس معرفة العوارض والمخاطر والتدابير الوقائية من خلال الإنترنت والتلفاز. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم حصول الناس على الدعم الذي يسمح لهم بملازمة منازلهم. ونظرًا لحجم المساعدة الممنوحة، لا يتوفّر أمام الناس خيار آخر سوى السّعي وراء أي عمل متوفّر لإعالة أسرهم.
في الواقع، إنّ إمدادات معدات النظافة الصحية ليست كافية وظروف النظافة العامة داخل المخيم ليست على المستوى الملائم. ولكن بسبب الضغط المالي، تصبح النظافة أمرًا ثانويًّا مقارنة بتلبية الاحتياجات اليومية من غذاء ومواد أساسيّة في ظل شح فرص العمل.
وقد اعتاد الناس قبل بضعة أشهر أن يحصلوا على الإمدادات الغذائية بانتظام، ولكنهم أصبحوا يتلقون المال عوضًا عن الطعام حيث يُمنح كل شخص 17,000 دينار عراقي (14 دولارًا أميركيًا) شهريًا وهو مبلغ ضئيل جدًا حيث يقدر بحوالي 500 دينار عراقي (0.40 دولار أميركي) للشخص يوميًا. كما أن التأخر في توزيع المساعدات يجعلهم مديونين لمحلات البقالة، حيث يقومون بتحويل الأموال إلى أصحاب المتاجر فور استلامها. ونظرًا لهذه الظروف الصعبة تصبح تدابير التباعد الجسدي وتوجيهات الحجر الصحي أمورا ثانوية أمام الحصول على عمل.
ضغوط مادّية ومخاوف من العدوى
وتتسبّب هذه الظروف المالية الحرجة في رفع مستويات الإجهاد ونشوب التّوترات داخل العائلات وبينها. كما أن الغموض الذي يلفّ المدة المحتملة لاستمرار هذا الوضع كفيل بتوليد المزيد من الضغط والخوف حيال المستقبل.
يفكّر سكان المخيم – من دون أي بصيص أمل - بالمدة التي سيضطرون فيها للتعامل مع صعوبات الحجر الصحي ونقص العمل بالإضافة إلى الصعوبات القائمة من قبل ظهور المرض. وفي بعض الأحيان تحدث مشادّات وشجارات لأصغر الأسباب.
كما تتركّز المخاوف التي يتشاركها سكان المخيم حول الأشخاص الذين يغادرون المخيم ثم يعودون إليه، حيث أن التّنقل بين المخيمات يمكن أن يتسبب في وصول الفيروس إلى المخيم وفي حال تفشيه، سوف يحصل ذلك على نطاق واسع للغاية. لذلك، فإن خضوع الأفراد الذين يغادرون المخيم للفحص عند عودتهم سوف يشعرنا بالارتياح.
شهادة نرمين: الظّروف المعيشية في مخيم ليلان
يطال أبرز أثر للجائحة دخل سكان مخيم ليلان بحيث أنه يشهد تراجعًا كبيرًا. عندما نسأل الناس "كيف تؤثّر جائحة كوفيد-19 على حياتك؟"، يجيبون بأنّ إجراءات الحجر الصحي والقيود المفروضة على الحركة - بالرغم من كونها إجراءً وقائيًا - تمنعهم من الخروج من المخيم للعمل، مما يسبّب لهم ضغوطًا نفسية في حياتهم اليومية أكثر من ذي قبل.
إنّ غالبية السكان من العمّال المياومين. وقد اعتادوا الخروج من المخيم للعمل من أجل إعالة أسرهم بشكل أفضل. والآن، وحتى في الفترات التي لا يُنفذ خلالها الحجر الصحي، بات النازحون يواجهون صعوبةً في العثور على عملٍ خارج المخيم. أمّا السبب الرئيسي الكامن خلف ذلك فهو تراجع الطّلب على العمال المياومين، بما أن العديد من الأماكن التي اعتادوا العمل فيها قد أغلقت أبوابها.
اعتاد النازحون الاعتماد على كل من الدخل الذي يجنونه من عملهم والمساعدات التي يحصلون عليها لتغطية نفقاتهم. ولكن الآن بما أنهم لا يجدون أي فرصة عمل، أضحت المساعدة التي يتلقونها غير كافيةٍ وحدها لتأمين جميع احتياجاتهم. إضافة إلى ذلك، يترافق انخفاض الدخل مع ارتفاع في الأسعار الإجمالية في سوق المخيم منذ بداية جائحة كوفيد-19 ليتضاعف حجم الضغط الواقع على عاتق السكان.
نحاول تزويد المرضى بإمدادات لمدة ثلاثة أشهر تشمل أدوية الأمراض المزمنة وعلاجات تنظيم الأسرة لخفض عدد الزيارات إلى العيادة، وتقليل إمكانية الاحتكاك بأشخاص آخرين في العيادةنرمين عباس، مسؤولة التوعية الصحية في منظّمة أطباء بلا حدود في كركوك ومخيم ليلان
صعوبة تطبيق إجراءات الوقاية في المخيم
على الرغم من الجهود التي تبذلها فرق التوعية الصحية لتثقيف سكان المخيم حول الحماية الذاتية، إلاّ أن العيش في المخيم يجعل تنفيذ بعض النصائح أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا. في الحقيقة، ليس من السهل تنفيذ التباعد الجسدي والاجتماعي داخل المخيم. فكيف يمكن للعائلات منع أطفالها من الاحتكاك بالآخرين عند خروجهم من الخيام؟ إذ لا يمكن للعائلات إبقاء أطفالها في الخيام طوال الوقت.
إضافة إلى ذلك، كيف يمكن لأي شخصٍ أن ينأى بنفسه عن الآخرين إذا اضطرّ للخروج من الخيمة إلى مساحةٍ مفتوحة يتشاركها مع جميع جيرانه لكافة الأغراض تقريبًا؟ حيث يتشارك معظم الأشخاص الذين يعيشون في القسم نفسه من المخيم في المرحاض والمطبخ. ولذلك، ليس من السهل بتاتًا تنفيذ التباعد في مكان مزدحم نسبيًا كهذا.
وفي حين أنّ لوازم النظافة الصحية المُوزّعة على العائلات كافية أحيانًا، إلا أنّه ليس الحال غالبًا. ويعود ذلك لعدة عوامل؛ أولاً، تُقدم سلة لوازم موحدة إلى جميع العائلات بغض النظر عن عدد أفرادها، ما يجعل السلة غير كافية للأسر الكبيرة. ثانيًا، يبيع الناس أحيانًا بعض الأغراض من هذه السلال لشراء السلع الأساسية مثل الطعام، ما يؤدّي إلى نقصٍ في كمية مواد النظافة التي يمتلكونها.
وفيما يخص عمليات التوزيع، تنصح إدارة المخيم والمنظّمات العاملة في المخيم الناس بتنفيذ التباعد الجسدي أثناء وقوفهم في الطوابير لتلقي المساعدة. ولكن بسبب خوف الناس من نفاذ المساعدات قبل أن يحين دورهم، يميلون إلى التدافع ويحاولون الوصول إلى أقرب موقع ممكن من نقطة التوزيع. ومع ذلك، نادرًا ما تنفد المساعدات قبل أن يأخذ الجميع حصّتهم.
التعديلات التي أجرتها منظّمة أطباء بلا حدود داخل المخيم في زمن كوفيد-19
ما زالت أنشطة المنظّمة مستمرّة في مخيم ليلان. أنشأنا نقطة فرز في العيادة حيث يجري فحص المرضى بحثًا عن أي علامات أو أعراض مرضية مرتبطة بكوفيد-19 أو أي احتكاك سابقٍ بمريض أو سفرٍ إلى مكان ينتشر فيه المرض.
وقد جرى تقسيم عيادة أطباء بلا حدود إلى عدة أقسام، بحيث يقدِّم أحدها الخدمات إلى الأشخاص الذين إمّا تظهر عليهم علامات أو أعراض المرض أو سافروا أو احتكوا بمريضٍ مصابٍ بكوفيد-19، في حين توفر الأقسام الأخرى خدمات للأشخاص الذين لا تظهر عليهم أي علامات ولكن يُحتمل أن يكونوا حاملين للعدوى.
تُنفّذ المنظّمة أيضًا إجراءات التباعد الجسدي في قسم الانتظار المخصّص للمرضى. كما نحاول تزويد المرضى بإمدادات لمدة ثلاثة أشهر تشمل أدوية الأمراض المزمنة وعلاجات تنظيم الأسرة لخفض عدد الزيارات إلى العيادة، وتقليل إمكانية الاحتكاك بأشخاص آخرين في العيادة. كما قامت المنظّمة بزيادة عدد جلسات التوعية الصحية لسكان المخيم مع التركيز على الرسائل التوعوية المتعلقة بكوفيد-19.
وقد بدأت الطواقم الطبية في المنظّمة بالتفكير في الأوقات التي سيتعذّر عليها فيها الوصول إلى المخيم. وللتّمكن من الاستجابة في مثل هذه الظروف، قرّر الطاقم الطبي ترك الأدوية في الصيدلية، بحيث يقوم موظفو أطباء بلا حدود من سكان المخيم، بإعطاء الأدوية الأساسية للمصابين بالأمراض المزمنة وذلك بدعم من الطاقم الطبي عن بُعد عندما يتعذّر عليه الوصول إلى المخيم.
ردة فعل النازحين تجاه كوفيد-19
نشهد أنواعًا مختلفة من ردود الفعل تجاه كوفيد-19 داخل المخيم تمامًا مثلما يحدث في أيّ مكانٍ آخر. لم يكن سكان المخيم قد سمعوا حتى وقت قصير عن أي إصابة داخل مخيم ليلان أو عن إصابة أحد من معارفهم بالفيروس، ولذلك فإن اهتمام بعضهم بالمرض قد تراجع تدريجيًا، ما أدّى إلى تراجع في مستوى الحماية الذاتية وزيادة احتمال الإصابة بالعدوى.
ومن ناحية أخرى، يبذل سكان آخرون قصارى جهدهم لتنفيذ الإرشادات الوقائية، حيث يأتون إلى العيادة وهم يرتدون الكمامات أو يغطون وجوههم بالحجاب.
يمكننا أن نشعر ببعض الخوف في نفوس الناس وخصوصًا الخوف الناجم عن فكرة الحجر الصحي إذا اشتُبه في إصابتهم بالمرض أو إذا أُصيبوا به فعليًا. و يتسبّب ذلك في بعض التردّد في طلب المشورة الصحيّة عند ظهور أعراض مشابهة لأعراض كوفيد-19. ومع ذلك، نحاول تشجيع الناس على التماس الرعاية الصحية عند الشعور بالتوعّك.