نزح مئات آلاف الناس جراء النزاع القائم بين بوكو حرام والقوات المسلحة النيجيرية في شمال شرق البلاد. وقد قضى بعضهم سنوات في بيوت مؤقتة، في حين يرتحل آخرون من مكان إلى آخر. لكن الجميع يسترجعون بذاكرتهم حياةً ملؤها الصعاب والمشقّات بحثاً عن بارقة أمل. فيما يلي بعضٌ من القصص التي عاشوها ويعيشونها في مدينتي بولكا وبني شيخ التابعتين لولاية بورنو في نيجيريا.
"كانت معاناتنا قد بلغت حداً كبيراً حين غادرنا. كنا مرعوبين، وسرنا مدة يومين قبل أن نصل إلى هنا، فيما نمنا ليلاً بين الأشجار. توفي بعض ممن رافقونا في تلك الرحلة. توفي بعض أطفالنا عطشاً لأننا لم نملك أي ماء نسقيهم". فالماتا امرأة بعمر الخامسة والثلاثين من قرية شيتيماري التابعة لولاية بورنو الواقعة في شمال شرق البلاد.
تستذكر فالماتا وهي تتنهد بداية الرحلة التي أبعدتها عن قريتها. حدث هذا قبل أربعة أعوام، وسط النزاع الدائر بين القوات المسلحة النيجيرية وبوكو حرام، والذي خلف اليوم قرابة مليوني نازح في أنحاء البلاد وبضع مئات الآلاف من اللاجئين في البلدان المجاورة المحيطة بمنطقة بحيرة تشاد كالنيجر والكاميرون وتشاد.
فالماتا واحدةٌ من أولئك الذين خسروا كل شيء تقريباً ولم يتبق لهم سوى الأمل بمستقبل أفضل. أخذتها الرحلة إلى مدينة بني شيخ التي تبعد ساعة ونصف الساعة بالسيارة إلى الغرب من عاصمة الولاية مايدوغوري. "حططنا رحالنا هنا لأننا اعتقدنا بأنه مكان أكثر أماناً".
قتل الكثير من الناس في قريتها وبينهم ثلاثة من أقربائها. إذ كان مقاتلو بوكو حرام يأتون على دراجات نارية ويسرقون ممتلكاتهم كما تحكي لنا. أجبرت بعض النساء على الزواج قسراً، في حين اختفت فتيات أخريات. "لا نعتقد بأن المكان آمن بما يكفي كي نعود بعد".
بعيداً عن المحاصيل التي اعتادت على زراعتها، تتنقل فالماتا من مخيم إلى آخر في بني شيخ برفقة زوجها وأطفالهما السبعة. لقد زاد عدد النازحين مع مرور الوقت ومعظمهم يعيش اليوم في خمسة تجمعات سكنية لا تقيهم سوى أغطية بلاستيكية متهالكة تتكئ أحياناً على دعامات خشبية. هذه المساحات الصغيرة التي فيها يطهون طعامهم وينامون ويقضون معظم وقتهم قد أضحت حارةً جداً في ظل ارتفاع درجات حرارة صيف بورنو.
لكن حين تهطل الأمطار، فإن المياه تتسرب عبر شقوق الأغطية البلاستيكية، كما يمكن للرياح القوية أن تمزق تلك الأغطية، ناهيك عن النمل الأبيض الذي يتغلغل في الدعامات الخشبية ويدمرها متسبباً في انهيار المسكن. "ليس ثمة الكثير الذي يمكننا فعله ها هنا. هناك أناسٌ من مناطق مختلفة وقد نزحنا معظمنا منذ وقت طويل جداً. لقد تحسن الوضع عما سبق حين لم يكن في وسعنا حتى النوم بسبب غياب الأمن".
بخلاف العديد من الطرقات في أنحاء بورنو والتي لا يمكن التحرك عليها إلا بمرافقة عسكرية، نجد بأن حركة المرور على الطريق الواصل بين بني شيخ ومايدوغوري قد عادت إلى طبيعتها منذ فترة، غير أن نقاط التفتيش العديدة تبقى لتذكرنا بهشاشة هذا المكان الذي تتكرر فيه حالات عبور المتمردين القادمين من غابة سامبيسا في الجزء الجنوبي من ولاية بورنو والمتجهين شمالاً إلى النيجر.
خلال الأشهر القليلة الماضية، وعقب اشتداد الهجوم، سيطر الجيش النيجيري على بعض مدن الولاية. وتتسبب الاشتباكات الحاصلة بين الجيش وبوكو حرام بموجات جديدة ينتقل فيها الناس في كافة الاتجاهات دون توقف. لا يجد الناس في معظم الأحيان أمامهم خياراً سوى ترك قراهم الواقعة في مناطق ريفية، منفصلين أحياناً عن أقاربهم، ومتجهين نحو مدنٍ أكبر تتركز فيها بعض الوكالات الإنسانية.
لا تصل الإغاثة إلى بعض المناطق التي يستحيل دخولها، كما لا تأتي سوى معلومات شحيحة من هذه المناطق. بولكا من المدن التي أصبحت وجهة معتادة، حيث تقع على مقربة من الحدود الكاميرونية ويقطنها اليوم حوالي 60,000 إلى 70,000 إنسان، وقد شهدت زيادة كبيرة في عدد سكانها منذ بداية العام، إذ يصل أناس جدد يومياً أو أسبوعياً، لدرجة أن المنظمات الإنسانية تخشى الآن من أن المكان غير قادر على استقبال المزيد وبالأخص في ظل نقص مياه الشرب وعدم كفاية المأوى.
تقول سابينا موتيندي، مديرة البرامج الطبية في منظمة أطباء بلا حدود في بولكا: "لا يكون في حوزة الناس حين يصلون سوى القليل جداً من المتاع. والأغلبية الساحقة منهم نساءٌ وأطفال دون سن الخامسة عشرة، إضافةً إلى بعض المسنين. أما جيلٌ كاملٌ من الشبّان فمفقود كلياً".
بعضهم قُتل في النزاع وآخرون انضموا إلى صفوف بوكو حرام. تضيف سابينا قائلة: "نرى كل حالة طبية ممكنة. المرضى يعانون من نقص في سكر الدم، كما أنهم معرضون لبيئة قاسية، وبالتالي يعانون من التهابات في الطرق التنفسية وقرحات وارتفاع في ضغط الدم". فمجرد أن يصل المرء إلى بولكا تبدأ معركةٌ من أجل البقاء.
موسى رجلٌ مسنٌّ بعمر الخامسة والسبعين من مدينة كيراوا النيجيرية. نجده يتحدث بشجنٍ بعد أن فقد معظم مخزونه من الطعام وكذلك فقد أمواله وممتلكاته جراء النزاع، فيقول: "كانت حياتي جيدة قبل النزاع، أما الآن فلا أعلم إن كان سيقع انفجار جديد غداً. أحاول البقاء على قيد الحياة فحسب، إذ لا يمكنني أن أعمل أو أتحرك... كل ما أفعله هو النوم". قام الجيش قبل خمسة أشهر بإحضار موسى وأسرته من كيراوا إلى بوكا. وهذا كان حسب قوله: "الخيار الوحيد المتاح". غير أن موسى يشتكي ويقول فيما يؤشر بيده إلى الغطاء البلاستيكي الذي يفترشه كي ينام: "لكن أي حياة هذه؟".
رغم كل المصاعب، إلا أن آخرين يتنفسون الصعداء حين يصلون إلى بولكا. فبعضهم ترك المدينة حين سيطرت عليها بوكو حرام حيث غادروا نيجيريا ويقيمون الآن في الكاميرون منذ بضعة أعوام. لكن عودة اللاجئين النيجيريين من الكاميرون قد زادت منذ مايو/أيار، إذ يعود الناس هرباً من تدهور ظروف المخيمات التي لجؤوا إليها على حد تعبيرهم.
لكنهم يتجهون إلى مناطق تعاني هي الأخرى من محدودية الخدمات. أداما، امرأة بعمر الخامسة والعشرين وأم لأربعة أطفال، وكانت تعيش في مخيم ميناواو في الكاميرون منذ عامين إلى أن عادت أوائل مايو/أيار. وتقول أداما: "قالوا لنا بأنهم سيعيدوننا إلى نيجيريا، ولهذا قررنا العودة بأنفسنا. قررت المجيء إلى بولكا لأنها مسقط رأسي".
مع هذا فإن العودة إلى نيجيريا لم تخلُ من المشاكل. إذ أنها اضطرت أثناء الرحلة إلى عبور نهر حيث لقي بعض من كان معها حتفهم حين انقلب القارب الصغير الذي كان يقلهم. "لم تكن الحياة سهلة في ميناواو، حيث كنا ننام في مكان مكشوف. لم يكن الطعام متوفراً على الدوام، وكان من حسن حظ المرء أن يحظى بما يأكله كل يوم. وصلتنا معلومات بأن الأوضاع في بولكا أفضل". اكتشفت أداما حين عادت بأن مخزونات الطعام وقطعان المواشي التي تركتها في المنزل الذي كانت مستأجرةً فيه في بولكا قد اختفت، واختفت معها كل ممتلكاتها الأخرى أيضاً. نتيجة لهذا فقد انتقلت إلى مجمع مركزٍ صحّي تدير فيه منظمة أطباء بلا حدود مستشفى ويستضيف حالياً نحو 2,000 نازح وعائد ممن لم يحصلوا على خيام. "تقول أداما: "على الناس أن يساعدونا بالإغاثة".
تعمل منظمة أطباء بلا حدود في مايدوغوري التابعة لولاية بورنو منذ أغسطس/آب 2014. تدير المنظمة حالياً 11 مرفقاً طبياً في ست مدن في بورنو (مايدوغوري ونغالا ومونغونو وغوزا وبولكا وبني شيخ) وتزور بانتظام خمس مدن أخرى: باما، بانكي، ديكوا، داماساك، ران.