الدكتورة كاثلين توماس هي طبيبة رعاية مركّزة من أستراليا، بدأت مهمتها الأولى في مستشفى التابع لمنظمة أطباء بلا حدود في قندوز من مايو/أيار 2015 وحتى وقوع الغارات الجوية الأميركية في 3 أكتوبر/تشرين الأول. تتحدث الدكتورة كاثلين عن العمل الاعتيادي في المستشفى وعن الأحداث التي وقعت خلال أسبوعٍ من القتال العنيف الذي أفضى إلى وقوع تلك الهجمات.
تعود بي الذاكرة إلى قندوز في أفغانستان في اللحظة التي أخرج فيها من صخب الحياة اليومية في أستراليا. فأرى نفسي عالقةً في حفرةٍ مظلمةٍ تأسرني وأنا أحاول استكشاف محتوياتها. لقد استوعبت المشاهد المرعبة في صبيحة ذلك الهجوم، وأصوات الغارات الجويّة العنيفة، ومشاهد الأطراف المبتورة والجثث المحترقة ورائحة الدماء. لكن ما أعجز عن استيعابه هو ذلك الشعور بالخسارة الفادحة، والأسى الذي يعيدني إلى قعر تلك الحفرة.
ما الذي خسرناه في قندوز – مذكرات يومٍ اعتيادي في مستشفى قندوز
كانت الساعة السابعة وخمسة وثلاثون دقيقة صباحاً أمامَ مقرّ إقامة أطباء بلا حدود، حيث توزّع أفراد الطاقم الدولي في سيارتي "لاند كروزر"، واحدة للرجال وأخرى للنساء. صعدَت كاترينا إلى السيارة متأخّرةً كالعادة وهي تضع اللمسات الأخيرة على وشاح الرأس مع خروج السيارة من بوابة المجمّع باتجاه المستشفى.
نظرتُ إلى "سالي" أخصائية الجراحة العامة التي بدا الإرهاق واضحاً على عينيها، وسألتها إن استطاعت أن تنام ليلة أمس، فقالت بأنها كانت تساعد الدكتور "حكيم" في عملية فتح بطن الساعة الثانية ليلاً. وابتسمنا معاً فنحن نعرف صعوبة العمل، وقد اخترنا القيام به طوعاً لذلك لا نستطيع أن نتذمّر.
نظرنا من خلال نافذة السيارة المغطاة بطبقةٍ مضادة للرصاص، النظرة الوحيدة التي نلقيها على قندوز كلّ يوم. رأيت الموظف الإداري "مجيب" يمشي في الشارع، وموظّف السجلّ "نجيب" يقود دراجته وهما في طريقهما إلى العمل في المستشفى. ولوَّحنا باحترامٍ لعددٍ من حراس المستشفى الذين قدموا التحيّة لنا عندما عبرنا.
ورأيت صفاً طويلاً من الناس ينتظرون عبور حاجز التفتيش للتأكد من أنهم لا يحملون أسلحة وذلك تطبيقاً لسياسة "عدم حمل السلاح" قبل دخول المستشفى. كما رأيت أيضاً عدداً من الرجال، بعضهم يسير على عكازات، وأحدهم يدفع كرسياً مدولباً فيه طفل مبتور القدمين، إضافة إلى بعض النساء اللاتي يرتدين البراقع مع أطفالهنّ.
ترجّلنا من السيارة لحضور الاجتماع الصباحي، ومررنا قرب البستاني الذي يعتني بحديقة المستشفى. خلعت حذائي خارج غرفة الاجتماعات، ورأيت في الداخل حلبة نقاشٍ واسعة تضمّ ثلاثين شخصاً هم مدراء كلّ الأقسام في المستشفى. دخلت الغرفة وجلست على الأرض لنبدأ الاجتماع، وعلى الرغم من أني وجدت هذا الأمر غريباً في البداية لكنّني اعتدتهُ بعد فترةٍ وجيزة.
انقطعت الكهرباء للحظة وتحولت الغرفة إلى جُحرٍ مُظلم، إلى أن فتح أحد الحاضرين النوافذ الفولاذية السميكة فدخل الضوء إلى الغرفة. وتساءلتُ وقتها إن كانت هذه هي فعلاً "الغرفة الآمنة" التي من المفترض أن نلجأ إليها في الأوقات الصعبة؟ لا أستطيع أن أحدّدَ أيّ نوعٍ من الطوارئ قد خُصّصت هذه الغرفة لأجله. ولم أتخيّل أبداً أننا سنحتمي من الغارات الجوية في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول في هذه الغرفة، وأنها ستتحول إلى قسم طوارئ مؤقت وغرفة عمليات لأفراد الطاقم المصابين والذين تواجد العديد منهم في ذلك الاجتماع الصباحيّ.
توجّهَ كلّ منا إلى قسمه بعد انتهاء الاجتماع، وجذبتني رائحة الدجاج في المطبخ حيث كان يجري تحضير الغداء، ثمَّ مررت بقسم الغسيل لآخذ رداءً نظيفاً، واتجهتُ إلى غرفة تغيير الملابس حيث التقيت في طريقي مع "سورايا" وهي مترجمة في المستشفى، و"سوراب" من قسم الصحة النفسيّة.
انتقلتُ بعدها إلى غرفة الطوارئ حيث كان الأطباء والممرضون يستعدون لاستقبال أكثر من 100 مريضٍ سيدخلون المستشفى في ذلك اليوم، وهم من ضحايا الإصابات البالغة الناجمة عن العنف والحوادث. ومررتُ بغرفة الإنعاش حيث رأيت "مهيب الله" و "لال محمد" وهما ممرضان خبيران في غرفة الطوارئ يساعدان الدكتور "أمين" في إدخال أنبوبٍ في صدر شابٍ صغير أصيب برصاصة. لقد ملأت أصوات أجهزة المراقبة الغرفة، ورأيت كيسين من الدمّ معلقان قرب السرير.
ألقيتُ نظرةً سريعة على كشفِ المريض ونتائج الأشعة، وسألت الدكتور "أمين" عن وضعه فأجابني أنّه بخير دون أن ينظر إليّ. لقد خرَّجَ هذا المستشفى بعد أربع سنوات على افتتاحه طاقماً طبيّاً خبيراً مثل الدكتور "أمين" و "مهيب الله" و "لال محمد" وغيرهم الكثيرين. ولطالما أبهرني الدكتور "أمين" بشكلٍ خاصّ، فلا شيء يشتّت انتباهه، وهو خبيرٌ وواثقٌ من نفسه ويعمل بكفاءةٍ كبيرة.
خرجت من غرفة الطوارئ فاستقبلتني ابتسامة اثنين من عمال النظافة في المستشفى وهما "نجيب الله" و "ناصر"، اللذان يحرصان على تنظيف أرض القاعة بشكل جيّد. ألقيت عليهما التحيّة بوضع يدي فوق قلبي كدليلٍ على الاحترام لأننا نادراً ما نتواصل بالكلام، فهما لا يعرفان من اللغة الإنكليزية أكثر ما أعرفه أنا عن اللغة الدارية. إنهما متفانيان في العمل ويتمتعان بروحٍ إيجابية.
دخلت بعدها وحدة الرعاية المركّزة خلف أحد عمّال الرعاية (وهو أحد أفراد عائلة المريض الذي يلازمه على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع ويقوم ببعض المهام التمريضية الأساسية)، ولاحظتُ أنه يعرجُ ويستخدم العكازات، وعرفت عندما لحقت به أنّ قدميه مبتورتان وهو يستخدم أطرافاً اصطناعية. وتساءلت كيف فقد هذا الشخص قدميه ، هل علق على خطِّ الاشتباك؟ أم أصيب بشظايا صاروخٍ عشوائي أو عبوةٍ ناسفة على جانب أحد الطرقات؟ عرفت عندما توجّه إلى السرير رقم "4" أنه والد طفلٍ أصيب بلغمٍ أرضي وفقد قدميه أيضاً. لقد شعرت بالعجز وأنا أرى أمامي العنف والمعاناة تنتقل من جيلٍ إلى آخر نتيجة أكثر من 30 عاماً من الحرب.
جمعتُ أطباء وحدة الرعاية المركّزة لنقوم بجولةٍ في الجناح، ولمحتُ بطرف عيني "نصير" و "زيا"، من الممرضين الشباب المجدّين، وهما يساعدان أحد المرضى لينتقل من الكرسي المدولب إلى السرير. لقد كان رجلأً ضخماً لكنّه أصبح ضعيفاً للغاية بسبب الإقامة الطويلة في وحدة الرعاية المركّزة بعد إصابته بشظايا قنبلة، وقد أخرجته "زيا" لاستنشاق بعض الهواء المنعش الذي يحتاج إليه كثيراً. وقبل أن أوقفه، حمل "نصير" الرجل الضخم بين يديه ورفعه بحركةٍ واحدة من الكرسي ووضعه في السرير. سارعت إلى "نصير" للتأكّد أنه لم يُصب بأذى وطلبت منه ألا يقوم بذلك وحده مرةً أخرى. ارتسمت على وجهه ابتسامة طفولية كبيرة وضحك ولوّح لي مودّعاً، ومنذ ذلك الوقت وأنا أدعوه "نصير الرجل القويّ".
كان المستشفى في أوجِ نشاطه عند الساعة العاشرة صباحاً، وغادرت وحدة الرعاية المركّزة للكشف على أحد المرضى في الجناح. رأيت في طريقي أحد فنيي المخبر يعمل على المجهر في قسم الأمراض، وعبرت غرفة الطوارئ ومررت بغرفة العمليات. تم إدخال أحد المرضى إلى غرفة العمليات على نقّالة، وألقيت التحية هناك على "عبد السلام"، وهو ممرض لطيف وخبير في غرفة العمليات. كان المريض سيخضع لجراحة بالغة تخصصية على يد فريق من الجراحين الدوليين والمحليين الخبراء في مرفق هو الوحيد من نوعه في شمال أفغانستان.
مررتُ بعدها بقسم الأشعة وقسم العيادات الخارجية التي تعجّ بالحركة. فالممرضون مشغولون بإزالة الجبائر ووضع جبائر جديدة، وتضميد الجروح وتقديم العكازات المناسبة. ورأيت هناك مريضاً أعرفه وهو صبيٌّ في التاسعة من عمره واسمه "عصمت الله"، وكان يتلقى العلاج على يد أخصائي العلاج الطبيعي، وقد بدا وضعه أفضل من السابق.
أمضى "عصمت الله" عدّة أيام في وحدة الرعاية المركّزة بعد تعرّضه لحادث سيارةٍ أليم أدى إلى إصابته بكسور في الحوض وأضرار في الرئتين وانسلاخ النسيج الرقيق بالكامل عن ظهره، وقد تطلّبت إصابته الاستثنائية في الظهر الكثير من العمليات الجراحية حتّى أنّنا طلبنا مساعدة الخبراء من كل أنحاء العالم لعلاجه. لقد كانت رحلة شاقة بالنسبة لهذا الصبي ولكنه استعادَ اليوم طفولته تقريباً.
مررتُ بعدها بأقسام الصحة النفسية، والعلاج الطبيعي والسجلات الطبيّة قبل خروجي من المبنى الرئيسي والوصول إلى الجناح الرابع، وهو مبنى صغير بسعة 20 سريراً تقريباً. ورأيت هناك أخصائي العلاج الطبيعي يعالج مريضاً في منتصف العمر فقد قدمه حديثاً، ووصلت أخيراً إلى سرير مريضي "روشان" الذي خرج من وحدة الرعاية المركّزة مؤخّراً ولكنني وجدت سريره فارغاً.
أخبرتني الممرضة أنّ "روشان" يتنزّه في الخارج وذهبَت للبحث عنّه. لقد أطربني سماع ذلك الخبر، فقد أمضى "روشان" فترة طويلة في وحدة الرعاية المركّزة بعد إصابته بطعنةٍ في القلب، حيث استطاع الجراحون بأعجوبةٍ أن يصلحوا تمزقاً بعرض سنتيمترين في البُطين الأيسر ولكن الأمل بشفائه كان ضعيفاً. أمّا الآن فأراهُ يمشي إلى الجناح ببطءٍ ولكن بثقةٍ أيضاً. أجريتُ تعديلاتٍ طفيفة على أدويته وأخبرته بأنه سيعود إلى المنزل غداً، فقام بتقليد عازف المزمار بيديه تعبيراً عن ابتهاجه بالخبر.
استمر المستشفى بالعمل بكلّ نشاطٍ بقية اليوم، فأفراد الطاقم كُلٌّ يعمل في قسمه، ويؤدي دوره المحدّد في رعاية المرضى المقيمين والخارجيين.
عندما عُدنا إلى مقر إقامتنا بعد يوم العمل الطويل ذاك، خلعت الوشاح عن رأسي وخرجت إلى الشرفة مع بعض أفراد الطاقم الدولي للاستمتاع بما بقي من ضوء النهار. كانت السماء مليئةً بالطائرات الورقيّة الملونة التي يلهو بها أطفالٌ على أسطحِ المنازل المجاورة. وفي وقت الغروب، اكتست الجبال المحيطة بمدينة قندوز لونها الورديّ، وبدأ المؤذّن بإطلاق نداءِ صلاة المغرب، قبل أن تختلط أصوات المآذن كأنها مقطوعةٌ موسيقية على لحن الغروب، في لحظةٍ شاعريّة من ذلك اليوم الطويل.
الأسبوع الأخير في المستشفى، قبل ستّة أيام على وقوع الهجوم
استيقظتُ قرابة الساعة الثانية ليلاً على أصوات الاشتباكات العنيفة، ومع أنني اعتدتُ أصوات الحرب بعد خمسة أشهر قضيتها في قندوز في "موسم الحرب"، إلا أنّ هذه الاشتباكات كانت مختلفة. لقد كانت قريبة وعنيفة وفي كلّ مكان. وكما هي العادة أيضاً، فأنا أتوقع عندما يكون صوت الاشتباكات قريباً أن أتلقّى اتصالاً من قسم الطوارئ يعلنون فيه تدفّق المرضى ويطلبون المساعدة.
ولكن الاتصال تأخّر هذه المرّة، فالقتال وصل إلى درجة عالية من العنف لم يتمكّن بسببها أي مصابٍ الوصول إلى المستشفى... ومع صبيحة اليوم التالي، يوم الإثنين الواقع في 28 سبتمبر/أيلول، هدأت وتيرة القتال لفترةٍ وجيزة، وجاء الاتصال الهاتفي وبدأ معه الأسبوع الأطول في حياتي.
كانَ اليوم الأول ذروة الفوضى، حيث استقبل المستشفى أكثر من 130 مريضاً خلال ساعاتٍ قليلة. وعلى الرغم من الجهد البطولي الذي بذله الطاقم، إلا أننا لم نستطع استيعاب كلّ الحالات، حيث كان معظم المصابين من المدنيين إضافةً إلى بعض المقاتلين من كلا طرفي النزاع.
عندما أفكّر بذلك اليوم أتذكّر رائحة الدماء التي كانت تعبق بها غرفة الطوارئ، وأيادي الأشخاص اليائسين الذين يتمسّكون بمئزري لكي ألتفت لهم، ويرجونني أن أساعد أحبائهم المصابين، وصراخُ وعويلُ عائلة طفلٍ تلقى رصاصةً طائشة ولم نستطع إنقاذ حياته، وشعور الهلع الذي انتابني وأنا أرى المزيد من المصابين يدخلون إلى غرفة الطوارئ الممتلئة أصلاً، والأصوات التي ترافق هذا المشهد الكارثي من أعيرةٍ نارية وانفجاراتٍ ضخمة حولّت يومنا إلى حجيمٍ لا يُطاق.
وأخيراً، وعند الساعة العاشرة ليلاً، هدأ الوضع في المستشفى إلى درجة استطعتُ معها أن أجلس مع بعض المدراء في المستشفى لنناقش الآثار المترتبة على هذه المعارك التي كانت مختلفة عن معارك "موسم الحرب" الاعتيادية. وأدركنا أن التنقّل من المستشفى وإليه لم يعد آمناً، وهذا يعني أننا لن نستطيع استبدال الطاقم العامل من الأطباء وحتى الحرّاس، والذين أمضى بعضهم أكثر من 24 ساعة متواصلة في العمل لأن الطاقم البديل لا يستطيع الوصول إلى المستشفى. لذلك وضعنا جدول عملٍ يتضمن مناوبات العمل والنوم على أملِ ألا يطول هذا الأمر كثيراً.
لم نستطع في ذلك الأسبوع استيعاب كلّ المرضى، حيث قمنا بلصق الأسرّة ببعضها لإفساح المجال لوضع أغطية على الأرض واستيعاب المزيد من المرضى، كما كانت غرفة العمليات تعمل ليلاً ونهاراً لعلاج العدد المتزايد من المصابين، و الحاجة إلى الرعاية المركّزة كبيرة جداً. قمنا بأقصى ما نستطيع بما لدينا من موارد محدودة ونحن نشاهد عاجزين المزيد من الأشخاص يموتون أمام أعيننا، ولو كان الوضع طبيعياً لاستطعنا إنقاذ حياتهم ببساطة.
فالبعض كان بحاجة إلى زمرة دمٍ نادرة، ولكنّ الوصول إلى المستشفى بات مستحيلاً لمن يريد التبرّع. وكان البعض الآخر بحاجة إلى دعم حيوي بواسطة جهاز التنفّس الذي لم نجد منه سوى أربعة في المستشفى وهي طبعاً لا تكفي للجميع. وهناك أشخاصٌ ظلّوا عالقين في بيوتهم لأيام عدّة وهم مصابون، وعندما استطاعوا الوصول إلى المستشفى كانت إصاباتهم قد بلغت مرحلةً خطيرة لا تنفع معها العمليات الجراحية أو الصادّات الحيوية القوية.
كان الدكتور "عثماني" مساعدي الرئيسي في وحدة الرعاية المركّزة في ذلك الأسبوع، وهو طبيبٌ شاب يتمتع بذكاء وطاقة إيجابية مؤثّرة. لقد تابع أخبار بلده وبقية العالم، حيث أخبرني قبل أسابيع عن تعيين رئيس جديد للوزراء في أستراليا قبل أن أعرف أنا ذلك. لقد نال تقدير جميع أفراد وحدة الرعاية المركّزة، السابقين والحاليين، نتيجةً لمهارته وأخلاقه المهنية الرفيعة وتفانيه وعطفه.
وقد استقال "عثماني" من المستشفى قبل عدّة أشهر ليبدأ التدريب في طبّ العيون في كابول، ولكنّه وافق بحماسةٍ على العمل في وحدة الرعاية المركّزة في مستشفى قندوز في عطلة الأسبوع، وتدريب الأطباء الجدد الذين تم تعيينهم مكانه. وقد قال لي يوماً: " لقد أعطتني منظمة أطباء بلا حدود الكثير من الفرص، وعلمتني الكثير من الأمور، وآمل أن أستطيع ردّ الجميل لهم يوماً".
كان الدكتور "عثماني" الطبيب الرئيسي في وحدة الرعاية المركّزة عندما بدأ القتال، وقرّر البقاء معنا في المستشفى طوال الأسبوع رغم عدم استعداده لذلك ولم يحضر حتى فرشاة أسنانه، وقلق أهله عليه جداً واتصلوا به أكثر من مرّة للاطمئنان عليه وليطلبوا منه على الأرجح مغادرة المستشفى. وعندما عبّرت له عن قلقي عليه لأنه لا ينام جيداً وطلبت منه أن يرتاح، قال لي وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة: "لا تقلقي دكتورة كاس، أنا بخير، وسعيدٌ بوجودي هنا، فنحن عائلة واحدة"، ثم ضحك وأضاف: "وبالإضافة إلى ذلك، معي هذه". وأخرج من جيبه قطعة خشبية قصيرة متآكلة من أحد طرفيها. رأيت على الطرف المتآكل ما يشبه آثار الأسنان، فأمسكت بها وتفحصّتها وسألته بفضول عنها فأجابني ضاحكاً بأنها فرشاة أسنانٍ أفغانيّة حصل عليها من أحد المرضى عندما سمعه يقول أنّه لم يحضر معه فرشاة أسنانه، وأنه لم يستطع أن يرفض هذا العرض. ضحكنا معاً بجنون، وكانت اللحظات الثمينة كهذه هي التي منحتني القدرة على الاستمرار طوال ذلك الأسبوع، وأشعر اليوم أن قلبي يعتصره الأسى عندما أعرف بحقّ قيمة تلك اللحظات ، لأنها لكونها لحظات المرح الأخيرة في حياة الدكتور "عثماني".
عرفنا جميعاً أن المستشفى يقع في قلب جبهة ساخنة وسريعة التغيّر، فالجدران الجدران تهتز بفعل القذائف والانفجارات عندما يقترب خط الاشتباك منا. لقد شعرنا بالخوف . وعندما نسمع دويّ انفجارٍ ضخم بالقرب من المستشفى، نرتمي على الأرض بعيداً عن النوافذ الكبيرة التي تملأ جدران وحدة الرعاية المركّزة، وننظر لنطمئنّ على بعضنا بقلقٍ ونحنُ نضحك ونبكي في الوقت نفسه، لأن الوضع الخطير الذي نحن فيه يوحي بشيءٍ من الكوميديا السوداء.
لطالما حاولنا أيضاً إبعاد المرضى واسطوانات الأوكسجين الكبيرة عن النوافذ، ولكنّ تصميم وحدة الرعاية المركّزة لم يساعدنا في ذلك. كنت أترقّبُ دائماً ما قد يأتي من تلك الوافذ، ولكنني لم أفكر يوماً بما قد ينزل من السقف، وهذا ما حدث فعلاً عندما وقع الهجوم بعد عدّة أيام.
وفي منتصف الأسبوع، أصيب "لال محمد" وهو أحد ممرضي غرفة الطوارئ برصاصةٍ طائشة بعد مغادرته المستشفى، وقد استدعى ذلك الأمر عقد اجتماعٍ طارئ لطاقم المستشفى. أدركنا ونحن نعالجه في غرفة الطوارئ أنّنا جميعاً ضعفاء أمام الرصاص والقنابل، ولا أحد منّا مضادٌ للموت. وبعد أن استقرت حالته في وحدة الرعاية المركّزة، اجتمع أكثر من 80 فردٍ منّا لحضور الاجتماع. شاهدت بعض الوجوه الجديدة في ذلك الاجتماع، وهم أشخاصٌ انضموا إلى الطاقم كبدلاء للأفراد الذين عملوا في الأيام الأولى، واستغلوا فترات الهدوء النسبي القليلة ليذهبوا إلى بيوتهم ويأخذوا عائلاتهم إلى أماكن آمنة.
أمّا الأشخاص المنضمّين حديثاً فلم تسنح لهم الفرصة للوصول إلى المستشفى قبل ذلك. فبعضهم احتُجز في منزله بينما القتال ينتقل من شارعٍ إلى آخر، وجاء بعضهم الآخر من مناطق أخرى وخاطروا بحياتهم على الطرقات للوصول إلى قندوز، ولكنهم استطاعوا الانضمام إلى طاقم العمل على الرغم من كلّ الصعاب. أتذكّر من تلك الوجوه بشكلٍ خاص الدكتور "ستار"، نائب المدير الطبي، و"تحصيل" مشرف الصيدلية، اللذان قطعا رحلة مخيفة من كابول إلى قندوز لمساعدتنا في ذلك اليوم.
وقد جسّد تكاتف الجميع في تلك الفترة بوضوح تفاني مجموعة ٍكبيرة من الأشخاص الذين يقومون بمهام مختلفة ويعملون معاً لإدارة هذا المستشفى. لقد شعرت بالفخر والشرف لوجودي مع هؤلاء الرجال والنساء الشجعان، زملائي وأصدقائي، في فترةٍ عصيبة من حياتنا ومن تاريخ مستشفى قندوز.
لقد تحمّلنا جميعاً عواقب القتال المستمر، وكنّا مع نهاية الأسبوع مرهقين جسدياً وعقلياً وعاطفياً. مَررنا بلحظاتٍ شعرنا فيها بالعجز، وقد عبر الدكتور "عثماني" عن هذه المشاعر في اليوم الأخير، وجاء ذلك عقب حادثٍ مأساوي أودى بحياة عدّة أطفال حاولوا الهرب مع عائلاتهم من قندوز، عندما علقوا على خطّ الاشتباك، كما ماتَ طفلان آخران في غرفة الطوارئ وغرفة العمليات. أما بقية الأطفال فتعرضوا لإصابات مختلفة، وقد قال الدكتور "عثماني" عن تلك الحادثة: "لقد تحوّل الناس إلى أشلاء وغبار ودماء، يا إلهي، ألا يوجد من يسمع هذه الصرخات؟".
لن أنسى ما حدث بعد عدّة ساعات عندما مررت في غرفة الطوارئ وناداني مشرف الغرفة الدكتور "سهراب". كان يحمل رضيعاً عمره ستّة أشهر، وكانت تلك المرة الأولى التي أراه فيها حزيناً طوال خمسة أشهر من عملنا معاً، فوالدة الرضيع ماتت بعد أن ألقت بنفسها على قنبلةٍ لتحمي رضيعها. وفي طريقنا إلى جناح الأمومة لنضع الطفل الجميل تحت رعاية ممرضة مختصّة، قال لي الدكتور "سهراب": "هذا لا يحتمل "كاس"، لا أستطيع تحمّل ذلك. إنها المرة الأولى التي أعجز فيها عن كبت دموعي".
أكملنا طريقنا إلى الجناح بصمتٍ ونحن نبكي. شعرتُ بالفراغ، وأردت أن أعانقه بقوّة وأن أخبره أنّ كل شيءٍ سيكون على ما يرام، ولكنني لم أفعل ذلك لأنه ليس مناسباً من الناحية الاجتماعية، كما أنني لا أعرف إن كانت تلك الكلمات حقيقية، فلا أحد منّا يستطيع التنبّؤ بما سيحدث.
أخبرني الدكتور "سهراب" عندما عُدنا إلى غرفة الطوارئ عن وضع الطاقم، فلم يكن هناك سوى أربعة أطبّاء في المستشفى، في الوقت الذي هرب فيه الكثير من الأطباء من قندوز. ولأن القلق بدا واضحاً على وجهي، نظر إليّ وقال " أنا هنا وسأبقى هنا. لن أترك المستشفى أو المرضى". إنه طبيب شجاع ومميز، وقد شعرت بالارتياح عندما عرفت أن اثنين من أفضل الأطباء الأربعة الباقين في المستشفى هما الدكتور "سهراب" والدكتور "أمين".
أما اليوم الأخير وهو اليوم الخامس فقد شهد حالةً من التفاؤل المفاجئ في وحدة الرعاية المركّزة. فمعظم المرضى يتعافون من إصاباتهم الخطيرة وهم جاهزون للخروج من وحدة الرعاية المركّزة.
فالمريض في السرير رقم "1" أحرز تقدماً كبيراً، وهو رجلٌ تعرض لإصابات بالغة في حادث سيارة قبل شهر مضى. وبعد تعرضه لعدّة مضاعفات مميتة، تعافى إلى درجة تمكّنهُ من التنفس بشكلٍ طبيعي. وعندما أخبرته ذلك في اليوم التالي، نظر إليّ بفرحٍ ومدّ يده كي يصافحني (وهو أمر لا يحدث عادة في أفغانستان بين الرجال والنساء)، فقد كانت تلك طريقته للتعبير عن احترامه وتقديره لي. وكنت متأكدةً أنّه سيستغني عن جهاز التنفس بشكل نهائي خلال بضعة أيام وسيعود إلى منزله قريباً.
أما ممرض غرفة الطوارئ المصاب "لال محمد" والذي كان في السرير رقم "2"، فقطع شوطاً كبيراً في التعافي خلال يومين فقط، وارتحت كثيراً عندما رأيت تحسناً كبيراً في مؤشراته الحيوية، وبدأت التفكير في إيقاظه من الغيبوبة المصطنعة في الصباح التالي.
أمّا "رازيا" وهي طفلة في الثالثة من عمرها فكانت في السرير رقم "7"، وقد فقدت جزءها السفلي الأيسر بسبب انفجار. كما فقدت الكثير من الدماء نتيجة الإصابة وخضعت لعدّة عمليات ونقل للدم لإنقاذ حياتها، وكانت تتعافى بشكل ملحوظ. سُررت كثيراً بالتقدم الذي أحرزته، وفكّرت بإرسالها إلى جناح الأطفال في الصباح التالي. وبقيت والدتها الشابة الجميلة إلى جانبها طوال الوقت واستقبلتني بابتسامتها المعهودة، وقد ارتاحت كثيراً عندما أخبرتها أنني سأنقل الطفلة إلى جناح الأطفال في اليوم التالي.
أما "وحيد الله" في السرير رقم "8" فكان صبياً خارقاً. فهو في الثانية عشرة من العمر، متفوق ً في مدرسته كما أخبرني والده، ولكنه تعرّض لإصابة بالغة في الدماغ قبل أسبوعين في حادث سيرٍ مروّع. وعلى الرغم من كل جهودنا لم نستطع إيقاظه من الغيبوبة ولم تكن هناك مؤشراتٌ على تعافيه. لذلك تم نقله إلى الجناحِ على عَجَل بسبب الحاجة إلى سريرٍ فارغ في وحدة الرعاية المركّزة، وكذلك ضرورة أن نتصرف بعقلانية بمواردنا المحدودة وأن نتيح المكان للأوفر حظّاً في النجاة، وهو لم يكن من بينهم للأسف.
تم استدعائي في ذلك الصباح مع الدكتور "عثماني" إلى الجناح بسبب حالة احتشاء قلبيّ، وقد شعرت بالأسى عندما اكتشفت أنّه "وحيد الله". لقد خضع الصبي للإنعاش دون فائدة لذلك ناقشنا جدوى المحاولة من جديد، ولكن والده رجانا أن نكمل، وفجأة، عاد الصبي إلى الحياة ووافقنا على إعادته إلى وحدة الرعاية المركّزة لفترةٍ قصيرةٍ ومحدودة لتلقي العلاج. وقد شهد ذلك المساء معجزةً حقيقية، فوالد الطفل الذي كان يتحدث مع والدته، وضع الهاتف على أذن الصبي، وتحدثت إليه والدته لبعض الوقت وعندما أنهت الحديث استفاق الصبي على الفور.
لقد فتح عينيه، وبدأ ينطقُ الكلمات، ونفّذ الأوامر بشكل دقيق ثم صافحني!! تجمّع كل الموجودين في وحدة الرعاية المركّزة ليروا الصبي الذي فقدنا الأمل تماماً بشفائه. لقد كانت معجزة حقيقية يعجز اللسان عن وصفها، وأخبرت والده أننا سنزيل أنبوب التنفس في الصباح التالي ونعيده إلى الجناح. وابتسمنا معا ونحن سعداء وبالكاد نصدّقُ ما حدث، وكلّنا أملٌ أن الغدَ سيكون أفضل.
ولكنّ العديد من المرضى لم يشهدوا قدوم اليوم التالي، وكذلك معظم أفراد الطاقم الطبي في وحدة الرعاية المركّزة والذين كانوا يعملون ليلاً، لأن الطائرات الأميركية افتتحت غاراتها على المستشفى بقصف وحدة الرعاية المركّزة، حيث مات جميع المرضى وأفراد الطاقم باستثناء "رازيا". لقد مات الدكتور "عثماني"، وممرضة وحدة الرعاية المركّزة "زيا"، و"نصير" الرجل القويّ وعامل النظافة "ناصر".
رجوت من كلّ قلبي أن يكون المرضى الثلاثة في وحدة الرعاية المركّزة، إضافة إلى ممرض غرفة الطوارئ "لال محمد"، نائمين بعمقٍ وألا يعرفوا ما الذي حدث، ولكن هذا الأملٌ لم يتحقّق. إذ وجدتهم محتجزين في أسرّتهم وألسنة اللهب تبتلعهم. ولكن ما يعزينا في كل تلك الفوضى هو أنّ "توريالاي" وهو الممرض الناجي الوحيد من وحدة الرعاية المركّزة، قام بكل شجاعة وبطولة بإنزال "رازيا" من سريرها وإخراجها من المبنى بأمان. وقد فرحت جداً عندما عرفت أنها تعافت من إصابتها وعادت إلى عائلتها.
انتقل الرعب الذي أصاب وحدة الرعاية المركّزة إلى بقية أقسام المبنى الرئيسي مع الضربات الجوية المركّزة التي أودت بحياة ممرض غرفة العمليات "عبد السلام"، وممرض غرفة الطوارئ "مهيب الله"، وعامل النظافة في غرفة الطوارئ "نجيب الله" والدكتور "أمين" الذي أصيب بجروحٍ بالغة واستطاع الهرب من المبنى الرئيسي ليموت بعد ساعةٍ واحدة بين أيدي زملائه وهم يحاولون إنقاذ حياته في غرفة العمليات المؤقتة الذي أنشأناها في المطبخ المجاور لغرفة الاجتماعات الصباحية.
واستمرت الغارات باستهداف بقية أجزاء المبنى وصولًا إلى قسم العيادات الخارجية الذي أصبح مكان النوم البديل للطاقم. وأودت الغارات أيضاً بحياة الدكتور "ستار"، ومسؤول السجلات الطبية "عبد المقصود"، والصيدلاني "تحصيل" الذي أصيب بجروجٍ مميتة، واستطاع الوصول إلى غرفة الاجتماعات الآمنة ليموت هناك بسبب النزيف الشديد. كما مات أيضاً اثنان من حرّاس المستشفى وهما "زبيب" و"شفيق".
لم يمتُ هؤلاء الزملاء بطريقة شاعريّة كما في الأفلام السينمائية، بل ماتوا بألمٍ وبطءٍ وهم يصرخون طلباً للمساعدة التي لم تأتِ أبداً. بقوا وحيدين وخائفين وهم يعرفون مدى بلاغة إصاباتهم وأنهم سيموتون. وإلى جانب الذين ماتوا، هناك المئات من أفراد الطاقم والمرضى الذين أصيبوا، وفقدوا أطرافاً، واخترقت الشظايا أجسادهم، واحترقوا، ومزّق الضغط رئاتهم، وعيونهم وآذانهم.
خلَّفت معظمُ هذه الإصابات حالات عجزٍ دائم. وكان ذلك مشهد الرعب الكابوسي الذي سيبقى محفوراً في ذاكرتي إلى الأبد.
وبالعودة إلى أستراليا، أجلس أحياناً وأشرب الكابوتشينو في مقهى يطلّ على المحيط، وأسمع صوت طائرة فوقي ولكنني لا أكبّد نفسي عناء النظر إلى الأعلى فلا حاجة لذلك، إنها طائرة تجارية عادية وأنا بأمان. لقد اكتشفت أن التأقلم مع رفاهية السلام أمرٌ بغاية البساطة.
أنظر إلى المحيط الشاسع وأحاول أن أفهم معنى الخسارة الحتمية الكبيرة، وتغرورق عيناي بالدموع حزناً على أصدقائي وزملائي ويعتصر قلبي الألم. وأندب المرضى، الذين كان بينهم شبابٌ في مقتبل العمر وقد اختطفهم الموت باكراً. ولكن الحزن لا ينتهي هنا، بل يمتد ليشمل عائلات الضحايا الذين قُتلوا في الثالث من أكتوبر، وكل سكان قندوز الذين يعيشون الخسارة والفقد على امتداد تاريخ النزاع الطويل.
إنه الحزنٌ على أربع سنواتٍ من العمل الشاق الدؤوب وتعاون الطاقم الدولي والمحليّ ليكون المستشفى على ما كان عليه. لقد كان كلّ يومٍ في المستشفى معركةً حقيقية يمكننا أن ننقذ فيها حياة العشرات وأن نعالج المئات، ولكن ما الذي سيحلّ بالناجين وبمن يُصابون مستقبلاً في قندوز؟ من سيعالجهم؟ من سينقذ حياة الذين يحتاجون إلى رعاية معقّدة لإصاباتهم البالغة؟ من سيعيد ترميم أجسادهم بعد أن تدمرها الحرب؟
إنه أمرٌ يفوق قدرتي على التفكير. وكل ما أستطيع فعله هو أن أنهي هذه الرحلة في الذاكرة قبل أن أغرقَ أكثر في هاوية الخسارة المظلمة التي لا قعر لها.