Skip to main content
Mariupol, Ukraine AP 13 March

العيش تحت القصف في ماريوبول: كل يوم هو بمثابة فقدان حياتك بأكملها

يروي لنا ساشا الذي يعمل مع منظمة أطباء بلا حدود في ماريوبول في أوكرانيا منذ فترة طويلة كيف أمسى العيش في المدينة المحاصرة التي ترزح تحت ضربات القوات الروسية. ولأسباب أمنية، سيستخدم اسمه الأول فقط. 

وُلدت في ماريوبول وأمضيت كل حياتي فيها. تلقيت دراستي في المدينة وعملت فيها وقضيت وقتًا ممتعًا في أنحائها. وعندما بدأت العمل مع أطباء بلا حدود، شعرت بفرح كبير، لا سيما أنني وُظفت لأنجز عملًا ساميًا. لقد كانت الحياة كريمة في ماريوبول. 

حتى أمسى العيش فيها جحيمًا حقيقيًا.

في بادئ الأمر، لم يصدق أحد منا ما كان يحصل، ففي زمننا هذا، لا يجب أن تؤول الأمور إلى ما آلت إليه. لم نتوقع حربًا أو قصفًا. لم نعتقد أن الكلام الذي سمعناه على التلفاز سيمسي حقيقة وأن أحدًا لن يضع حدًا لهذا الجنون. وعندما أدركت أن المدينة تتعرض للقصف، شعرت بالإعياء، حتى أنني لم أستطع تناول الطعام لثلاثة أيام.

في البداية، كانت الأمور طبيعية إلى حد ما. إلا أننا كنا نعلم أن شيئًا لن يكون طبيعيًا بعد الآن. ثم بدأ القصف وعلمنا أن عالمنا لن يعود إلى حاله بعد ذاك اليوم. فبتنا نعيش بين القصف والصواريخ المتساقطة التي تدمر المدينة برمتها. احتل هذا الوضع تفكيرنا ومشاعرنا، ولم تعد أيام الأسبوع تحمل أي معنى. لم أستطع أن أفرق بين يوم جمعةٍ أو سبت فجميع الأيام باتت كابوسًا طويلًا. حاولت أختي أن تستمر في عدّ الأيام، لكن بالنسبة لي، لم تكن هذه الأخيرة إلا تواريخًا مبهمة.

فيديو

الحياة في ماريوبول

خلال الأيام الأولى، حالفنا الحظ ونجحنا في التبرع بما تبقى من إمدادات أطباء بلا حدود إلى قسم الطوارئ في ماريوبول. ولكن عندما انهارت شبكات الهاتف والكهرباء، لم نعد نتمكن من التواصل مع زملائنا وإكمال ما بدأنا به. بدأ القصف يشتد حدة كل يوم حتى بتنا نمضي أوقاتنا في محاولة البقاء على قيد الحياة أو إيجاد سبيل للمغادرة.

كيف لنا أن نقول إن بيتنا قد أمسى مرتعًا للخوف؟ بُنيت مقابر جديدة في جميع أنحاء المدينة وفي جميع الأحياء تقريبًا، حتى فناء الحضانة المجاورة لمنزلي الذي يفترض أن يكون ملعبًا للأطفال تحول إلى مقبرة. كيف لنا أن نبني مستقبلًا أفضل لأطفالنا على أنقاض هذا الماضي؟ كيف لنا أن نتحمل المزيد من الألم والحزن بينما نشعر كل يوم أننا نخسر حياتنا؟

تأثرت بشدة بالمشهد في ماريوبول. كان الجميع يمد يد العون للآخرين. ساور الجميع القلق على الآخرين ولم يلقِ أحدٌ بالًا لنفسه. قلقت الأمهات على أطفالهن والأطفال على أهلهم. وأنا ساورني القلق على أختي التي كانت في غاية التوتر بسبب القصف. لقد اعتقدت لوهلة أن قلبها سيتوقف. أشارت ساعة اللياقة التي ترتديها أن قلبها ينبض 180 نبضة في الدقيقة. اعتراني توتر شديد من رؤيتها في هذا الوضع. أخبرتها حينها أن الموت من الخوف وسط جميع الخيارات الأخرى يبدو خيارًا سخيفًا! ومع مرور الوقت، تكيفت مع الوضع وبدلاً من أن تتجمد من الخوف أثناء القصف، أخبرتني عن جميع أماكن الاختباء التي استطاعت أن تفكر فيها. شعرت بقلق بالغ عليها وكان لا بد من إخراجها من المدينة.

بدأ القصف يشتد حدة كل يوم حتى بتنا نمضي أوقاتنا في محاولة البقاء على قيد الحياة أو إيجاد سبيل للمغادرة. ساشا، أحد أعضاء فريق أطباء بلا حدود في ماريوبول

انتقلنا ثلاث مرات بحثًا عن ملاذ آمن. لقد حالفنا الحظ، إذ أقمنا مع مجموعة رائعة من الأشخاص الذين أصبحوا بمثابة عائلة لنا. لقد أثبت التاريخ أن الناس ينجون عندما يتحدون ويضعون أيديهم بأيدي بعض. وقد شهدت على ذلك بأم عيني، ما ترك أثرًا كبيرًا في نفسي.

لقد تأثرت كثيرًا برؤية شجاعة الناس، علمًا أنهم اضطروا إلى أن يتحلوا بها في الكثير من الأحيان. أتذكر كيف كانت إحدى العائلات تطهو الطعام في الشارع خارج منزلها. لقد أشعلوا النار على بعد أمتار قليلة من فجوتين كبيرتين في الأرض تسبب بهما قصفٌ تعرضت له عائلة أخرى قبل أيام قليلة.

لقد تأثرت بشكل كبير لرؤية الناس يكافحون للبقاء على قيد الحياة ويتمسكون بما هو خيّر. قررنا الاحتفال بيوم المرأة العالمي نهار 8 مارس/آذار رغم كل ما يحصل. اتصلنا بجيراننا الذين دعوا بدورهم بعض الأصدقاء. استطاع أحد الأشخاص العثور على زجاجة من الشمبانيا وقام آخر بإعداد قالب حلوى باستعمال نصف المكونات اللازمة للوصفة. حتى أننا تمكنا من تشغيل الموسيقى لبضع دقائق. وعلى مدى نصف ساعة من الوقت، استطعنا الاحتفال بصدق. لقد كنا سعيدين واستطعنا أن نضحك من جديد، كان ذلك شعورًا جيدًا. وخلال الاحتفال، ألقينا بعض الدعابات حول انتهاء الكابوس الذي نعيشه.

لكن الكابوس استمر وكأننا لن نستيقظ منه أبدًا.

ماريوبول، شرق أوكرانيا

كنا نحاول المغادرة كل يوم ولكن مع انتشار شائعات حول ما كان يحدث وما لا يحدث، بدأنا نعتقد أننا لن نتمكن من المغادرة أبدًا. وفي أحد الأيام، وصلتنا معلومات تفيد بأن قافلة تتجهز للمغادرة فهرعنا إلى سيارتي القديمة وحاولنا العثور على القافلة المغادِرة. أخبرنا أكبر عدد ممكن من الأشخاص، والآن يعتريني الحزن عندما أفكر في الأشخاص الذين لم أستطع أن أخبرهم. سارت الأمور بوتيرة سريعة ولم نتمكن من الاتصال بالجميع مع تعطل شبكة الهاتف.

سادت الفوضى والذعر عند المغادرة وكانت السيارات تسير في جميع الاتجاهات. رأينا سيارة بها أشخاص لم نتمكن من إحصاء عددهم لكثرتهم. كانت وجوههم ملتصقة بنوافذ السيارة. لا أعرف كيف نجحوا في ركوبها جميعهم، لكني آمل أن يكونوا قد تمكنوا من المغادرة. لم نحمل أي خريطة وكنا قلقين من أننا نسير في الاتجاه الخاطئ، ولكن بطريقة ما، اخترنا الطريق الصحيح وتمكنا من مغادرة ماريوبول.

عندما حاولنا مغادرة ماريوبول، أدركت أن الوضع في الواقع أسوأ بكثير مما كنت أعتقد. وتبين أن الحظ قد حالفني لأنني تمكنت من العثور على ملاذٍ في جزء من المدينة كان قد نجا نسبيًا. ففي طريقي للخروج، رأيت كيف ألمّ الدمار والحزن بالمدينة. لقد رأينا فجوات عملاقة بين المباني السكنية وأنقاض محلات السوبر ماركت والمرافق الطبية والمدارس، حتى أننا وجدنا أن ملاجئًا يلتمس فيها الناس الأمان قد دُمرت.

نحن بأمان الآن، لكننا لا نعرف ماذا يخبئ لنا المستقبل. عندما تمكنت من استعمال الإنترنت، صُدمت لرؤية صور مدينتي العزيزة تحترق وأبناء مدينتي تحت الأنقاض. هذا وقرأت في الأخبار كيف قُصف مسرح ماريوبول الذي لجأت إليه الكثير من العائلات مع أطفالها. لا أجد كلمات لوصف شعوري ولا يسعني سوى أن أتساءل عن السبب الذي أدى إلى هذا الدمار.

ساشا، أحد أعضاء فريق أطباء بلا حدود في ماريوبول "لم يكن أمامنا من خيار سوى أن نترك الكثير من المقربين إلينا وراءنا. وما زال يصعب علينا التفكير بهم وبجميع من بقي في المدينة. يؤلمني قلبي لمدى قلقي على عائلتي. حاولت العودة لإخراجهم، لكن هذه المهمة باءت بالفشل. والآن، باتت أخبارهم مقطوعة عنا تمامًا".
ماريوبول، شرق أوكرانيا

لم يكن أمامنا من خيار سوى أن نترك الكثير من المقربين إلينا وراءنا. وما زال يصعب علينا التفكير بهم وبجميع من بقي في المدينة. يؤلمني قلبي لمدى قلقي على عائلتي. حاولت العودة لإخراجهم، لكن هذه المهمة باءت بالفشل. والآن، باتت أخبارهم مقطوعة عنا تمامًا.

يحظى الأشخاص الذين يبقون معًا بفرصة أكبر للبقاء على قيد الحياة، ولكن الكثير من الناس ما زالوا بمفردهم. لا يستطيع كبار السن والمصابين بوهنٍ المشي لكيلومترات في سبيل العثور على الماء والغذاء، فكيف لهم أن يتمكنوا من المغادرة؟

لا أستطيع التوقف عن التفكير في سيدة عجوز قابلناها في الشارع منذ أسبوعين. لم تكن تمشي بشكل جيد وكانت نظارتها قد كُسرت، فلم تستطع الرؤية بشكل سليم. أخرجت هاتفًا صغيرًا وسألتنا ما إذا كان بإمكاننا شحنه لها. حاولت القيام بذلك على بطارية سيارتي، لكنني لم أنجح بذلك. أخبرتها أن شبكة الهاتف معطلة وأنها لن تتمكن من الاتصال بأي شخص حتى لو كانت بطارية هاتفها مشحونة.

فما كان منها إلا أن أجابت، "أعلم أنني لن أستطيع الاتصال بأحد. ولكن قد يرغب أحد بالاتصال بي في يوم من الأيام". أدركت أنها كانت بمفردها وأنها علّقت كل آمالها على هذا الهاتف، لعلّ أحدًا يحاول الاتصال بها. ربما تحاول عائلتي الاتصال بي الآن. لا أحد يعلم.

لقد مر شهر تقريبًا منذ أن بدأ هذا الكابوس والوضع يزداد سوءًا كل يوم. يموت الناس في ماريوبول كل يوم بسبب القصف والضربات ونقص جميع الاحتياجات الأساسية كالغذاء والماء والرعاية الصحية. ويكافح المدنيون الأبرياء في ظل ظروفٍ ومصاعبٍ لا تطاق، علمًا أنها تلمّ بهم كل يوم وساعة ودقيقة. تمكن جزء صغير من السكان من الفرار ولا يزال عدد كبير منهم مختبئًا في مبانٍ مدمرة أو في أقبية منازل مدمرة من دون توفر أي دعم من الخارج.

لماذا يدفع الأبرياء الثمن؟ وإلى متى ستُترك هذه المأساة لتستمر؟

المقال التالي
الحرب في أوكرانيا
تصريح 7 سبتمبر/أيلول 2022