عمَّان، الأردن - بعد أكثر من أربع سنوات من القيام بالأنشطة الطارئة المنقذة للحياة، والتي تم فيها تقديم العلاج الطبي لأكثر من 2.700 جريح حرب سوري، اتخذت منظمة أطباء بلا حدود القرار الصعب بإغلاق مشروع الرمثا الجراحي في شمال الأردن. ويأتي القرار في ضوء الانخفاض الحاد في عدد الجرحى السوريين الذين تتم إحالتهم من جنوب سوريا إلى مستشفى الرمثا منذ إنشاء منطقة خفض التوتر في يوليو/تموز من العام الماضي.
بعد اندلاع النزاع في سوريا في عام 2011، لم يتمكن القطاع الصحي من تلبية الاحتياجات الطبية المتزايدة للناس في سوريا. فالإصابات المعقدة في جنوب سوريا كانت بحاجة إلى رعاية طبية تخصصية، وبدا أن الإحالات الطبية إلى الأردن هي إحدى الخيارات العملية الوحيدة لإنقاذ حياة ذوي الإصابات الحرجة.
وعلى الجانب الآخر من الحدود، على بعد أقل من 5 كيلومترات، بدأت غرفة الطوارئ في مستشفى الرمثا تمتلئ بالحالات، حيث كان الجرحى السوريون يعبرون الحدود للحصول على الرعاية المنقذة للحياة. وفي سبتمبر/أيلول 2013، قامت أطباء بلا حدود بعملية طارئة من خلال افتتاح مشروع الرمثا الجراحي للمساعدة في الاستجابة لتدفق الجرحى الواصلين ذوي الإصابات البالغة التي تسبَّب بها النزاع المدمر.
ويقول باول فورمان، الذي كان حينها رئيس بعثة أطباء بلا حدود في الأردن: "استقبلنا أحد أوائل الجرحى من ذوي الإصابات الحرجة في سبتمبر/أيلول 2013 بعد أن طالته غارة جوية في جنوب سوريا. وقد قال حينها للفريق الطبي ’دعوني أموت، لن تتمكنوا من علاجي‘".
احتاج المصاب إلى جراحة كبرى وثلاثة مثبتات خارجية – وهي أجهزة تثبت العظام لحين التئامها. وبعد تسعة أشهر من الرعاية في المستشفى وأكثر من 30 عملية، تم تخريجه. فقال حينها: "لم أنج بحياتي فقط، بل سأخرج من هنا على قدمي".
كل تصعيد في العنف في جنوب سوريا كان يقابله ازدياد في أعداد الجرحى القادمين إلى الأردن. وبلغ العمل الجراحي في الرمثا ذروته في منتصف عام 2015 مع وصول 125 جريح سوري تعرضوا لإصابات ناجمة عن الانفجارات إلى قسم الطوارئ في مستشفى الرمثا في يونيو/حزيران. وكان الفريق الطبي يسابق الزمن ليتمكن من تثبيت استقرار الحالات وليجد مكاناً - في المرفق الذي يضم 41 سريراً - للجرحى القادمين بإصابات حديثة.
لقد شاهد فريق أطباء بلا حدود بشكل مباشر قسوة النزاع الذي يدور بالقرب منهم. ويقول شعيب محمد، المنسق الطبي لأطباء بلا حدود في الأردن: "نحو 75 في المئة من الجرحى الذين استُقبلوا في الرمثا تعرضوا لإصابات ناجمة عن انفجارات ولديهم جروح بالغة معقدة ومتعددة".
"أحد أكبر التحديات التي واجهتنا كان محدودية عدد الأسرَّة في وحدة العناية المركزة في الرمثا. ومع تغيُّر معطيات النزاع بدأنا نرى المزيد من إصابات الرأس والعمود الفقري والإصابات العصبية التي تحتاج لرعاية تخصصية لم يكن بالإمكان تقديمها في جنوب سوريا".
لقد جعلت إصابات الجرحى الرحلة القصيرة والغادرة لعبور الحدود من سوريا رحلةً قد تشكل تهديداً للحياة. وقد انبرت أطباء بلا حدود للدعوة إلى تسهيل دخول حالات الجرحى السوريين الحرجة عبر الحدود، وساعدت في إنشاء آلية إحالة منظَّمة.
إضافة إلى هذا، دعت منظمة أطباء بلا حدود السلطات الأردنية إلى منح أولئك الذين يحتاجون لمزيد من المتابعة الطبية الفرصة لإكمال علاجهم وتماثلهم للشفاء في وحدة الرعاية ما بعد الجراحة التابعة لأطباء بلا حدود في مخيم الزعتري للاجئين.
هذا وانخفض نشاط أطباء بلا حدود في الرمثا إثر إغلاق حدود الأردن مع سوريا في يونيو/حزيران 2016. حتى ذوي الإصابات البالغة لم يعودوا قادرين على الوصول إلى الجهة المقابلة من الحدود في الأردن حيث يمكن إنقاذ حياتهم.
بقي مستشفى الرمثا ذي الواحد وأربعين سريراً، وبغرف عملياته وأجنحته وممراته هادئاً وشبه فارغ، بينما كان صوت القصف على الجهة المقابلة من الحدود يصم الآذان. علا صوت أطباء بلا حدود مطالباً باستئناف الإجلاءات الطبية الضرورية لتمكين الجرحى من تلقي العلاج الطبي التخصصي.
ويقول المنسق الأسبق لمشروع أطباء بلا حدود في الرمثا بيتر رينكر: "لقد كان وجودنا في الرمثا في ذلك الوقت صعباً جداً، إذ كنا نحن [طاقم الرمثا] نسمع صوت الانفجارات الهادرة وتعترينا أسئلة كثيرة؛ ’هل هناك أية جرحى على الجانب الآخر من الحدود؟ وإذا كان هنالك جرحى، هل تمكنوا من الوصول إلى مستشفى في الوقت اللازم؟ هل تمكنوا من تلقي الرعاية الطبية التي يحتاجونها؟ هل سيتمكنون من عبور الحدود إلى مرفقنا إذا لم تستطع المستشفيات في سوريا علاجهم؟‘ لا يملك أحد إجابات عن معظم هذه الأسئلة".
عاد العنف مجدداً في فبراير/شباط 2017، مسبباً ارتفاع عدد الذين يحتاجون لجراحة منقذة للحياة. وسرعان ما زادت الإجلاءات الطبية عبر الحدود الأردنية، ومن جديد عادت أجنحة مستشفى الرمثا تعج بالمرضى.
بعد ذلك فوراً، بدأت أنشطة مشروع أطباء بلا حدود في الرمثا تفتر من جديد، مع الإعلان عن منطقة خفض تصعيد في جنوب غرب سوريا في يوليو/تموز 2017، التي خفضت مستوى العنف في الجنوب السوري.
انخفض عدد ذوي الإصابات الحرجة من السوريين المُحالين من المستشفيات الميدانية في جنوب سوريا إلى الأردن بشكل مفاجئ – من 48 مصاباً في يونيو/حزيران إلى 16 مصاباً في يوليو/تموز، وإلى أقل من نصف ذلك العدد في أغسطس/آب.
واصلت أطباء بلا حدود تقديم الخدمات الطبية للمرضى الذين كانوا قيد التعافي في أجنحتها. ويقول كريم*، وهو جريح سوري من درعا عمره 25 عاماً: "كنت في مبنى قديم قريباً من البيت عندما انفجرت قذيفة أو قنبلة وهدمت المبنى. انهار السقف فوق رأسي وعلقت تحت الركام. أصبت بارتجاج في الدماغ وفقدت وعيي. أخبروني بعدها أنه بعد نقلي إلى أربعة أو خمسة مستشفيات، تَقرَّرَ أن وضعي حرج وينبغي نقلي إلى الأردن".
وأضاف قبل يومين من موعد تخريجه كآخر مريض رسمي في مشروع الرمثا: "أصرَّ أهلي في سوريا على أن أبقى في الأردن لحين اكتمال شفائي. كانوا قلقين على صحتي بسبب عدم توفر فرص أو إمكانية علاج لي في سوريا وقتها".
"يسعدني أن أبقى في هذا المكان الآمن بعيداً عن الحرب والموت، لكن علي أن أعود إلى بلدي، هكذا تقول القوانين. على أية حال أنا أفتقد بيتي وزوجتي وأفتقد ابنتي ذات الستة أشهر. علمت مؤخراً أنها بدأت تحبو. وآمل أن أكون هناك معها عندما تبدأ بنطق أولى كلماتها".
على مدى السنوات الأربعة الماضية، ساعد مشروع الرمثا الجراحي المرضى على التعافي من إصاباتهم البدنية وكذلك من الضرر النفسي الذي لحق بهم. وقد تضمنت الخدمات المقدمة للمرضى الرعاية الاستشفائية العامة والمتابعة وجلسات العلاج الفيزيائي والدعم النفسي الاجتماعي.
ومنذ تدشينه في سبتمبر/أيلول 2013، استقبل المشروع 2.700 مصاب حرب في قسم الطوارئ وأدخل وعالج 1.842 مصاباً وأجرى أكثر من 3.700 جراحة كبرى، كما أجرى أكثر من 8.500 جلسة علاج فيزيائي وأكثر من 5.900 جلسة دعم نفسي اجتماعي.
اليوم تسدل أطباء بلا حدود الستار على واحد من أكبر برامجها الطبية في الأردن. هذا المشروع ترك أثراً على حياة كل من الجرحى السوريين وفريق أطباء بلا حدود.
فبينما ينهي مشروع الرمثا عملياته، تواصل أطباء بلا حدود دعم المستشفيات الميدانية في جنوب سوريا عن بعد من الأردن، وتقدم العلاج للاجئين السوريين والمحتاجين من الأردنيين من خلال برامج مخصصة للجراحة والرعاية الصحية الأساسية وعلاج الأمراض غير السارية ورعاية صحة الأم والطفل والدعم النفسي في عدة محافظات في أنحاء الأردن.
*تم تغيير الاسم لحماية خصوصية المريض