يجري منذ أكثر من ثلاثة أسابيع فرض حجر صحي تام في الضفة الغربية حيث تم تسجيل أكثر من 300 حالة إصابة مؤكّدة بمرض كوفيد-19 في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. ومما لا شك فيه أنّ قسوة هذه الإجراءات الأمنية، التي تهدف بطبيعة الحال إلى منع اتساع دائرة انتشار الفيروس، تُلقي بوزرها على كاهل أكثر من 3,2 مليون شخص يعيشون في الضفة الغربية.
إلا أنّه في حين يمر العديد من الناس في جميع أنحاء العالم بفترة من فرض القيود على الحركة للمرة الأولى على الإطلاق، لطالما كان تقييد الحركة هذا بالنسبة إلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة واقعًا مألوفًا، وترافق مع سنوات من العنف المتواصل والتوترات السياسية والاجتماعية.
ومن نابلس، هذه المحافظة التي شهدت أكبر عدد من حوادث العنف بين المستوطنين الإسرائيليين والسكان الفلسطينيين في عام 2018، يقول منسّق مشروع منظّمة أطباء بلا حدود، طارق زيد الكيلاني، "إن ما تجده باقي بلدان العالم غير طبيعي هو مألوف بالنسبة إلى الفلسطينيين هنا. فالقيود على حركة الفلسطينيين هي جزء من واقع الحياة اليومية، التي تشكّل جزءًا منه أيضًا أعمال العنف في العديد من المجتمعات المحلية حول المستوطنات الإسرائيلية والبؤر الاستيطانية المجاورة. ولم يأت تفشي مرض كوفيد-19 بأي جديد إلى واقع الحال".
إن ما تجده باقي بلدان العالم غير طبيعي هو مألوف بالنسبة إلى الفلسطينيين هنا. فالقيود على حركة الفلسطينيين هي جزء من واقع الحياة اليومية، التي تشكّل جزءًا منه أيضًا أعمال العنف (...) حول المستوطنات الإسرائيلية والبؤر الاستيطانية المجاورة.طارق زيد الكيلاني، منسّق مشروع أطباء بلا حدود في نابلس
لم يمنع انتشار كوفيد-19 في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلّة استمرار العنف في الضفة الغربية. ففي مارس/آذار، لم تتوقف الاشتباكات بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية - ولا عمليات الاعتقال وهدم المنازل ومصادرة الممتلكات الفلسطينية على يد الجيش الإسرائيلي.
وفي حين تقوم السلطات الإسرائيلية والفلسطينية بتضييق الخناق على الحركة وفرض التباعد الاجتماعي في محاولة لكبح جماح تفشي الجائحة، ارتفعت الهجمات التي يشنها المستوطنون الإسرائيليون ضدّ الفلسطينيين بنسبة 78 في المئة في الضفة الغربية في الأسبوعَين الأخيرَين من شهر مارس/آذار، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية<a href="https://www.ochaopt.org/poc/17-30-march-2020">مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية</a>.
ويتابع طارق زيد الكيلاني قائلًا، "إن أحداث الاعتداءات الجسدية واللفظية والرشق بالحجارة وإلحاق الضرر بالممتلكات الفلسطينية وتخريب السيارات والمنازل والممتلكات الزراعية عادةً ما تحصل في هذه المنطقة، وتُضاف إلى العمليات الروتينية العنيفة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي. ينجم عن ذلك دوامة لا تهدأ من العنف المُستمر تطال المجتمعات على نطاق واسع، وتؤثر تأثيرًا سلبيًا على الصحة النفسية لدى آلاف الأشخاص وعلى رفاه مجتمعات محلية بأكملها".
ويضيف، "وينضمّ هذا بدوره إلى الأسباب الأخرى الأكثر شيوعًا المسبّبة للإجهاد والقلق، مثل المشاكل العائلية أو الافتقار للاستقرار المالي، والتي تمس بالفلسطينيين مثل مجتمعات أخرى حول العالم. لم ينجح هذا الفيروس والحظر الصحي بعكس دوامة العنف هذه".
إن أحداث الاعتداءات الجسدية واللفظية والرشق بالحجارة وإلحاق الضرر بالممتلكات الفلسطينية وتخريب السيارات والمنازل والممتلكات الزراعية عادةً ما تحصل في هذه المنطقة، وتُضاف إلى العمليات الروتينية العنيفة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي.طارق زيد الكيلاني، منسّق مشروع أطباء بلا حدود في نابلس
ومثل الفيروس تمامًا، يتفشى العنف منذ عقود في الضفة الغربية داخل المجتمعات المحلية التي تشهد الانتهاكات العسكرية والاعتداءات الجسدية والنفسية والاضطرابات مرة تلو الأخرى. في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، ألقى العنف المُنتشر بأشكال مختلفة بظلاله على الديناميات المحلية وغالبًا ما قوّض الترابط الأسري.
من جهته، يشرح سميح ملحيس الذي يعمل منذ خمس سنوات اختصاصيًا نفسيًا في منظّمة أطباء بلا حدود في نابلس في إطار برنامج يُقدّم استشارات نفسية وخدمات اجتماعية مجانية إلى سكان المحافظة، ويقول، "قاسى بعض مرضانا، وبالأخص الذين يعيشون بجوار المستوطنات الإسرائيلية، حوادث مؤلمة للغاية. يعاني أحد مرضاي، وهو فتى في السابعة من عمره، من مشاكل في النوم ونوبات ذعر منذ أن هاجم المستوطنون الإسرائيليون قريته. رأى الحي حيث يُقيم يتعرّض للهجوم بالحجارة وقنابل المولوتوف وشهد على اشتباك أشخاص يعرفهم مع المستوطنين".
ويُتابع سميح ملحيس موضحًا، "إنّ العديد من مرضانا الذين يمرّون بحوادث مؤلمة مثل خسارة أحد أفراد الأسرة نتيجة أعمال العنف أو تعرّضه للاعتقال، وعمليات توغل الجيش في منتصف الليل، والاعتداءات الجسدية أو الاشتباكات مع المستوطنين، ينتهي بهم المطاف بتطوير أشكال من القلق ونوبات الذعر واضطرابات التكيفاضطرابات التكيف هي حالات مرتبطة بالإجهاد تحدث استجابةً لحادثة مجهدة أو غير متوقعة، ويسبّب الإجهاد مشاكل سلوكية كبيرة. نظرًا إلى أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات التكيف/متلازمة الاستجابة للضغط النفسي غالبًا ما يختبرون بعض أعراض الاكتئاب السريري، مثل البكاء والشعور باليأس وفقدان الاهتمام بالعمل أو الأنشطة، يُطلق على اضطرابات التكيف أحيانًا بشكل غير رسمي "الاكتئاب الظرفي".. ومن جهةٍ أخرى، يواجه أيضًا الأشخاص الذين لم يختبروا مثل هذه الحوادث المؤلمة الآثار المدمّرة غير المباشرة لكل تلك التوترات وأعمال العنف".
إنّ العديد من مرضانا الذين يمرّون بحوادث مؤلمة مثل خسارة أحد أفراد الأسرة نتيجة أعمال العنف أو تعرّضه للاعتقال، وعمليات توغل الجيش في منتصف الليل، والاعتداءات الجسدية أو الاشتباكات مع المستوطنين، ينتهي بهم المطاف بتطوير أشكال من القلق ونوبات الذعر واضطرابات التكيف.سميح ملحيس، اختصاصي نفسي
ففي الحقيقة، بالنسبة إلى غالبية الأشخاص الذين يطلبون الدعم النفسي في عيادات أطباء بلا حدود، تنشأ الضائقة النفسية لديهم في المنزل، فيما يتعلق بالمشاكل الأسرية والأشكال المختلفة من العنف المنزلي. وفي بعض الأحيان، يُضحي كلا مصدرَي الاضطراب النفسي - سياق من العنف المتكرّر والمشاكل الأسرية الأكثر شيوعًا - متشابكَين ويصعب فصلهما عن بعضهما البعض.
ويشرح الاختصاصي النفسي، "أخبرتني مريضة من مرضاي أنّ زوجها يصرخ في وجهها وفي وجه أطفالهما كما اعتاد بعض الجنود الإسرائيليين أن يفعلوا معه. وأخبرتني مريضة أخرى أن زوجها أضحى يُسيء معاملتها بعد أن أصيب بجروح بالغة أثناء الاشتباكات. وهذه الحالات ليست فريدة. يظهر لي نمطٌ مألوف باستمرار حيث تتسلّل مشاعر القهر والإذلال والعجز والغضب الناجمة عن الاحتلال إلى الترابط الأسري، ويأخذ العنف مجراه في حلقة مفرغة".
إن انتشار كوفيد-19 وما يترتب على ذلك من حجر صحي، والانتكاسات الشديدة على الأوضاع المالية للعديد من الأسر، والهجمات المستمرة ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية، تعتبر جميعها عوامل تزيد من تفاقم وضع هش في الأصل يعيش فيه الأشخاص الذين يختبرون الاضطراب النفسي والعنف المنزلي والمعاملة المسيئة.
ويتابع سميح ملحيس، "يواجه الوضع الاستثنائي لجائحة كوفيد-19 الجميع بالمجهول والإحساس بفقدان السيطرة والشعور بالعجز. إلى جانب الحجر الصحي، قد تزيد هذه المشاعر من القلق وتُسبّب أعراضًا مزعجة للأشخاص الذين يعانون مسبقًا من اضطرابات صحية نفسية. منذ بدء الحجر الصحي، لم أستطع مقابلة مرضاي. لذا أحاول تقديم استشارات منتظمة عبر الهاتف. وهو أمر صعب بالنسبة إلي لأنني أحاول دائمًا إبعاد عائلتي عن هذا الجانب المؤثّر من عملي. والأمر صعبٌ أيضًا على المرضى الذين لا يملكون فسحة آمنة في المنزل تسمح لهم بالتحدّث معي. ولكن لا خيار أمامنا سوى المواصلة. توفير الدعم النفسي الاجتماعي لمن يعانون أصلًا من ضائقة نفسية هو أمر في غاية الأهمية الآن".
بعد إعلان رئيس الوزراء الفلسطيني فرض الحجر الصحي التام في الضفة الغربية، توجّب على فرق أطباء بلا حدود مواءمة الأنشطة لحماية المرضى والموظفين من انتشار كوفيد-19. في حين تم تعليق جلسات الصحة النفسية الجماعية والاستشارات وجهاً لوجه، تتم متابعة المرضى الذين يحتاجون إلى الدعم النفسي بانتظام عبر الهاتف.
تُدير منظّمة أطباء بلا حدود منذ عام 2001 برامج دعم نفسي للأشخاص الذين يعانون من مشاكل الصحة النفسية كنتيجة مباشرة وغير مباشرة للعنف في الضفة الغربية.
تُقدّم أطباء بلا حدود في نابلس وقلقيلية المساعدة النفسية والعلاج النفسي والعلاج النفسي الجماعي والجلسات الجماعية للتوعية بالصحة النفسية وأنشطة الدعم النفسي الاجتماعي في عيادتَين وفي قاعة استشارات جديدة تم افتتاحها في طوباس في ديسمبر/كانون الأول 2019.
وفي منطقة الخليل، يُقدّم فريقنا من الاختصاصيين النفسيين والمستشارين والموظفين الطبيين المحليين والدوليين الزيارات المنزلية والجلسات النفسية الاجتماعية الفردية والجماعية واستشارات العلاج النفسي مع البالغين والمراهقين والأطفال المتأثرين بشكل مباشر وغير مباشر جراء العنف المرتبط بالنزاع.
في عام 2019، أجرت أطباء بلا حدود 5,240 جلسة استشارة وعلاج نفسي وتلقى 2,398 مريضًا الدعم بالعلاج النفسي في الضفة الغربية.