Skip to main content
Shatila Camp Illustrations

"تكفيني رؤية ابتسامة على وجه أرهقه الحزن لأعرف قيمة عملي"

في إطار مهمة صحفيّة مع صحيفة الغارديان البريطانية، زارت رسامة الكاريكاتير إيلا بارون عيادة أطباء بلا حدود في مخيم شاتيلا في بيروت، حيث قابلت عدداً من النساء وصوّرت قصصهنّ في الرسوم الإيضاحية أدناه.

في هذا المقال، تشاركنا الاختصاصية النفسية ميريام سليخانيان تجربتها بالعمل مع اللاجئين في مشروع المنظمة في شاتيلا.

قصص لاجئات في مخيم شاتيلا في لبنان
"اختطفت ابنتي ذات السنوات الست عندما كانت عائدة من الروضة إلى منزلنا في المخيم. زوجي في السجن، تم توقيفه بسبب ديون لم يسدّدها، لذا فأنا أتحمل مسؤولية تربية الأطفال بمفردي. لا أملك الوقت كي أرافقهم من وإلى المدرسة."
Ella Baron

منذ عامين، بدأت العمل كاختصاصية نفسية في عيادة منظمة أطباء بلا حدود في مخيم شاتيلا في بيروت. كنت أتوقع أن يرتكز عملي مع اللاجئين على التعامل مع حالات الصدمات النفسية من جرّاء ما شهدوه في الماضي، لكن سرعان ما تبيّن لي أنّ التحديات اليومية التي يعيشها اللاجئون اليوم هي محور الحالات التي أتابعها. 

تأسس مخيم شاتيلا في العام 1949 من أجل استقبال اللاجئين الفلسطينيين. أما اليوم، فهو يستضيف لاجئين سوريين وفلسطينيين، بالإضافة إلى أقليّات أخرى مثل الإثيوبيين والفيليبينيين، ويعيش جميعهم في ظروف مزرية.

قصص لاجئات في مخيم شاتيلا في لبنان
"نحن 11 فردًا في عائلتي ولذلك بدأت العمل في سن الثالثة عشرة. عملت في مستودع خارج شاتيلا حيث كنت أفرز الملابس. وكان صاحب العمل رجلًا يبلغ من العمر 45 عامًا. في إحدى الليالي عندما كنت أعمل بمفردي، قام باغتصابي. لم أستطع البوح بكلمة لأنني لم أرغب أن تعاني عائلتي بسبب الفضيحة. ولكن في نهاية المطاف، رأت أختي الكبيرة الكدمات وأخبرتها بما حصل، فاصطحبتني إلى عيادة أطباء بلا حدود."
Ella Baron

اللاجئون في شاتيلا: بين صدمات الماضي ومصاعب الحاضر

يعاني الناس في المخيم مرارة الحرمان من أبسط احتياجاتهم. ويكافح اللاجئ عموماً، وبشكلٍ يومي ليعثر على طعام ليسدّ جوعه، وليضمن أمنه وسلامته، وليحظى بالاحترام، وليتمكن من تطوير نفسه وتحقيق إمكاناته. وفضلاً عن ما يملأ ماضي اللاجئين من صدمات، وما يثقل كاهلهم من فقدان أحبائهم وخسارة ممتلكاتهم ونزوحهم إلى أرض غير أرضهم، يستمرّون بمواجهة الذل والتمييز يوميّاً ويعيشون في حالة دائمة من عدم اليقين إزاء المستقبل. وكل ذلك يترك أثراً على صحتّهم النفسّية.

ومن ضمن المرضى الذين يستفيدون من الخدمات الصحية التي تقدمها عيادة منظمة أطباء بلا حدود في مخيم شاتيلا، عدد من اللاجئين السوريين، وعلى الأخص النساء، يسعون للحصول على خدمات الرعاية النفسية التي نقدّمها. 

وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة، نجد أن بعض الأزواج يلجؤون إلى تفريغ إحباطاتهم على نسائهم بأشكال متعدّدة، فيتعرض عدد من النساء بشكل منتظم إلى مختلف أنواع العنف، الاجتماعي والاقتصادي واللفظي والجسدي. وليس من الغريب أن تجد النساء يلتزمن بالصمت ويتحلّين بالصبر، بغض النظر عما يختلجهنّ من مشاعر. وتَراهن يكدَحن في سبيل أزواجهنّ وأطفالهنّ بينما الألم يسكن قلوبهن. إنّ تلك النساء اللاتي لا يسمع أحدٌ صوتهن ولا يكترث أحدٌ لدموعهن متعطشاتٌ للرعاية والحنان، يتشرّبانها كالتُربة الجافة المتشوّقة للأمطار.

وقد قابلت بعضاً من النساء من ضحايا للعنف، اللواتي يلجأن إلى صبّ جامّ غضبهنّ على أطفالهن، غير أنّه كان باستطاعتي تلمّس مدى الحب والحنان الذي يكنّهنّ لأطفالهنّ من خلال ما يذرفنه من دموع الندم.
 

قصص لاجئات في مخيم شاتيلا في لبنان
"عندما سقطت القذيفة على منزلنا، علقت ساقاي، فتسمّرت في مكاني. شاهدت عائلتي تموت أمام عينَي. والدتي وأختي وطفلَي، ماتوا جميعهم أمامي ولم أستطع القيام بأي شيء لإنقاذهم. منذ وصولنا إلى لبنان، ألازم الغرفة طوال الوقت برفقة الأطفال. مضى خمسة أسابيع تقريبًا على آخر مرة خرجت فيها من المنزل." تقول الاختصاصية النفسيّة: أحاول أن أساعدها على التخلّص من هذا الذنب، وأن ترى أن عائلتها تتفهّم أنها بذلت كل ما في وسعها. ما زلنا نعمل على تمييز الفرق بين النسيان والمضي قدمًا.  
Ella Baron

خدمات الصحة النفسية في مشروع أطباء بلا حدود

توفّر منظمة أطباء بلا حدود خدمات الرعاية النفسية المجانية لسكان مخيم شاتيلا ومحيطه، منذ العام 2013، وأنا أعمل ضمن فريق من الاختصاصيين النفسيين الذين يؤمّنون الدعم النفسي الفردي والأسري والجماعي لجميع الفئات العمرية ومختلف الجنسيات. وقد قدمنا أكثر من 3000 استشارة نفسيّة فرديّة في العام 2017 في عياداتنا في مخيّمي شاتيلا وبرج البراجنة.  

يعاني المرضى الذين أقابلهم من مجموعة متنوعة من الأعراض المتعلّقة بالصحة النفسية، وغالبيتها ناجم عمّا عاشوه من محنٍ وما يختبرونه من ظروف صعبة في حياتهم اليوميّة. ويمثّل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة أبرز الحالات التي نتابعها. 

يتمثّل عملي في مساعدة المرضى على التأقلم مع مشاكلهم العاطفية والنفسية من خلال الاستماع إليهم، والتعاطف معهم، والإقرار بمشاعرهم. وأنا أعمل على توعيتهم بشأن ما يعانونه من أعراضٍ وآثارٍ تنجم عن التعرّض إلى المِحَن، كما أرشدهم إلى كيفية التغلّب على ما يواجهونه من مصاعب تترك أثرها على الصحة النفسية. ويعتبر احترام السرية والخصوصية من أهم مبادئ عملنا. ونحن نعمل في الغالب ضمن فرق متعددة الاختصاصات مؤلفة من عاملين اجتماعيين وأطباء وممرضين، وذلك من أجل ضمان خدمة شاملة لمرضانا على المستوى الجسدي والنفسي والاجتماعي.

قصص لاجئات في مخيم شاتيلا في لبنان
تقول الاختصاصية النفسيّة: العمل هنا في المخيم صعب. عندما أرغب بالحصول على استراحة، أصعد على سطح العيادة. أستغرب كيف يطعم الناس العصافير وقد لا يملكون ما يأكلونه. ربما يبحثون بذلك عن شكلٍ من أشكال الحرية.
Ella Baron

عمل الاختصاصي النفسي مع أطباء بلا حدود يستحقّ العناء

على عكس الأماكن الأخرى التي عملت فيها، ينطوي عملي كاختصاصية نفسية في مخيم شاتيلا على الكثير من التحديات، ذلك أن المشاكل التي نواجهها لا تتعلق بالصحة النفسية فحسب. فمن الصعب تقديم المساعدة إلى شخص يعاني من مشكلة نفسية في حين تؤرقه عدم قدرته على تأمين الغذاء لأطفاله أو توفير سكن لائق وآمن لهم.  

من خلال عملي مع منظمة أطباء بلا حدود، بتّ أعرف أنّ اللاجئين عالقون ما بين الماضي والحاضر من دون أي مخرج يلوح في الأفق. فمن جهة، هم يتوقون إلى العودة إلى ديارهم وإلى دفئ بيوتهم وحضن أحبّائهم، ولكن بعضهم يدرك صعوبة الأمر، فبيوتهم حطام ومعيشتهم تقطّعت سُبُلها. ومن جهة أخرى، هم يتمنّون العثور على الأمان، ولكن أي أمان هذا، فما من غذاء يكفيهم ولا سقف يأويهم، وقليل من الناس من يحترمهم.

إنّ العمل مع اللاجئين هو كالعلاج بالنسبة لي، فقد اضطررت مراراً أن أكبح دموعي أثناء أدائي عملي، ولكن في الوقت ذاته، أجد أنّ معنوياتي ترتفع بعد أن أستقبل إنساناً وأتعاطف مع ألمه، وأرى ابتسامة ترتسم على وجهه.

قصص لاجئات في مخيم شاتيلا في لبنان
تقول الاختصاصية النفسيّة: إن التعامل مع الصدمة هو كمن يفتح خزانة تكدّست فيها الملابس، عندما تفتح بابها، يفيض محتواها المبعثر على وجهك. حينها يجب أن تأخذ الوقت لترتيب الفوضى، لتتمكن بعد ذلك من طيها بعناية.
Ella Baron

إنّ التغيّر الذي يطرأ على حياة الناس بعد الاستفادة من خدماتنا هو المكافأة التي ابتغيها من عملي في المخيم. لقد لمست كيف يبدأ الناس بتقبّل واقعهم وببناء قدرتهم على الصمود، ورأيت كيف يستطيع بعض الناس تغيير ظروفهم بعد تلقيهم للدعم النفسي، كما شهدت كيف أنّ باستطاعة الناس أن يستعيدوا الأمل بالإنسانية بعد أن يدركوا أن ثمّة من يهتم لأمرهم. 

كثيراً ما يسألني أصدقائي عن سبب اختياري للعمل هنا في حين أنّ بمقدوري العمل في ظروف أفضل بكثير، وإجابتي لا تتغير أبداً: لو كان الجميع يقولون ما تقولونه، لما مدّ أحد يد العون إلى الناس الذين هم بأمس الحاجة إلى المساعدة.

أؤمن أنني موجودة على وجه هذه الأرض لسببٍ ما، ويتوجب عليّ القيام بدوري مهما صغر حجمه، على أمل المساهمة في تأمين بعض من الرفاه لصالح من يعاني من البشر. بالنسبة إلي، يكفيني أن أرى ابتسامة واحدة ترتسم على وجهٍ أرهقه الحزن، أو أن ألمح الأمل يتغلغل في قلب إنسانٍ نسي معنى الأمل، أو أن أسمع كلمة تقدير واحدة تنطقها شفاه كانت قد اختارت الصمت، لأكون على يقين من قيمة ما أقوم به.

قصص لاجئات في مخيم شاتيلا في لبنان
قالت إحدى السيدات للرسامة: إن كنتِ سترسمينني، أريد أن أبدو كسيدة أنيقة؛ لا ترسميني وأنا أرتدي هذا السروال الفضفاض. تقول القابلة القانونيّة: "هل المولود ذكر أم أنثى؟" هذا هو أول سؤال نسمعه عندما نجري التصوير للمرأة الحامل. إن كان المولود أنثى، فقد يؤدّي ذلك إلى توترات مع أفراد العائلة، ولذلك نقول دائمًا إننا لا نعرف جنس المولود. أخبر السيدة الحامل أن الأولوية هي صحة الطفل وأريها جسمه وقدمَيه ويديَه ووجهه؛ وأطلب منها الاستماع إلى دقات قلبه. ما زلت أشعر بالسعادة في كل مرة أساعد سيدة على وضع مولودها، ولكن الأمر قد يكون صعبًا للغاية. رأيت في إحدى المرات فتاة تبلغ 12 عامًا حامل بطفلها الثاني.
Ella Baron

تعمل منظّمة أطباء بلا حدود في مخيم شاتيلا منذ العام 2013، حيث تدير عيادة للرعاية الصحيّة الأساسية بالإضافة إلى مركز رعاية صحة النساء، وتركّز على تقديم الخدمات الصحيّة المجانية في مجالات رعاية الأمراض المزمنة، واللقاحات، والصحّة النفسيّة بالإضافة إلى حزمة شاملة من خدمات الصحّة الإنجابيّة. كما وتعمل على التعاون مع منظمات وجمعيّات محليّة ودوليّة لتأمين شبكة إحالة فعّالة للمرضى.

المقال التالي
لبنان
قصة مصورة 30 أغسطس/آب 2017