بالنسبة لأولئك الذين عاشوا العنف أو الكوارث الطبيعية، يكون البقاء على قيد الحياة أكثر من مجرد استتباب صحة الجسد. فحتى بعد علاج إصاباتهم الجسدية، يمكن أن تبقى الجراح النفسية متواريةً عن الأنظار. وتعمل طواقم أطباء بلا حدود للمساعدة على شفاء الجراح النفسية للمرضى من خلال الاستماع إليهم ودعمهم وتوفير الرعاية الصحية النفسية كي لا تستحكم بهم التجارب الصادمة التي عاشوها.
تفيد منظمة الصحة العالمية أن واحداً من أصل كل أربعة أشخاص حول العالم يعاني شكلاً ما من أشكال الاضطرابات الصحية النفسية، لكن ورغم هذا لا يسعى سوى 60 بالمئة ممن يعانون إلى طلب المساعدة.
ويرجَّح أن تكون هذه النسبة أكبر بشكل واضح في حال تواجد عوامل إضافية كالاضطهاد والحاجة إلى الفرار من نزاع مسلح أو كوارث طبيعية أو عدم توفر خدمات الرعاية الصحية. ولهذا تولي منظمة أطباء بلا حدود أهمية قصوى لتوفير الرعاية الصحية النفسية خلال الطوارئ الإنسانية.
اعترفت منظمة أطباء بلا حدود عام 1998 بأهمية توفير الرعاية الصحية النفسية في إطار عملها عند الطوارئ. وبعد مرور أكثر من 20 عامًا من ذلك، وفي عام 2022، أجرت طواقم المنظمة 425,500 استشارة صحة نفسية فردية، علماً أن الدعم الذي توفره المنظمة من خلال هذه الاستشارات الفردية والجماعية يركز على مساعدة الناس في بناء استراتيجيات للتأقلم بعد أن مروا بتجارب صادمة. أما الهدف المباشر فيتمثل في التقليل من هذه الأعراض ومساعدة الناس على العيش حياةً طبيعية.
وبالنسبة للناس العالقين في خضم تبعات الأزمات الإنسانية، يمكن أن تتسبب هذه الأزمات لهم بمعاناة نفسية شديدة. فقد انفصل الكثير من الناس الذين ساعدتهم المنظمة عن أسرهم أو شهدوا وفاة أشخاص أعزاء على قلوبهم، في حين قضى آخرون معظم الوقت وهم يفرون من مكان إلى آخر بحثاً عن الملجأ والأمان.
يشار إلى أن إجبار الناس على ترك بيوتهم يمثل مشكلة لها أهمية خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعانون في الأساس من اضطرابات نفسية، إذ أنهم يفقدون إمكانية الحصول على العلاج والرعاية الروتينية، مما قد يؤدي إلى ظهور مشاكل غاية في الشدة.
صُمّم موقع حماية المدنيين في ملكال في جنوب السودان لتوفير الحماية للسكان المحليين المتضررين من العنف، غير أن ظروف المعيشة الصعبة وفقدان الأمل وشعور الناس كأنهم يعيشون في سجن لا تتوفر فيه سوى فرص محدودة للعمل، كلها أمور أثرت على الصحة النفسية لمن يعيش داخل هذا المخيم. وشهدت منظمة أطباء بلا حدود سنة 2016 زيادة في أعداد حالات الانتحار ومحاولات الانتحار التي لم تستثن الأطفال.
أما في مخيم موريا الواقع على جزيرة ليسبوس اليونانية، فقد خلفت سياسة احتجاز طالبي اللجوء إلى أجل غير مسمى أثراً بليغاً على الصحة النفسية لما مجموعه 9,000 شخصٍ محتجزين هناك. فالوضع الذي يشوبه الغموض يؤثر في جميع المحتجزين هناك، لكنه يلحق بالأخص الضرر بالأطفال.
وخلال نشاط جماعي ركز على الصحة النفسية للأطفال بين عمر السادسة والثامنة عشرة جرى سنة 2018، لاحظ فريق أطباء بلا حدود أن قرابة 25 بالمئة من الأطفال كانوا قد ألحقوا الأذى بأنفسهم أو حاولوا الانتحار أو أنهم فكروا بالقيام به، كما يعاني الكثير من الأطفال من نوبات هلع وكوابيس مستمرة.
دائماً ما تسير حاملةً سكيناً وتقول بأنها ستؤذي نفسها. وقد عثرت مرتين على سكين تحت وسادتها حتى الآن. وحين أتركها لوحدها تكون دائماً مطأطئة رأسها وهي تبكيفاطمة* تتحدّث عن تأثُّر ابنتها الصغرى البالغة من العمر 14 عاماً بالأوضاع في موريا
تحديات توفير الرعاية الصحية النفسية
يواجه الناس الكثير من العوائق التي تمنعهم من الحصول على الرعاية الصحية النفسية، منها أن الكثير لا يستوعبون ماهيتها وكيف من شأنها مساعدتهم وأنهم قد يكونون بحاجة إليها حتى. وتعود أخصائية علم النفس ديبورا دوارتي بذاكرتها إلى التحدي الذي كانت تواجهه في الوصول إلى اللاجئين القادمين إلى مخيم داداب في كينيا، وتقول: "لم يكن الناس على علم بالآثار التي كانت تجاربهم قد خلفتها على صحتهم الجسدية والنفسية، ولم يلاحظوا ما جرى لهم إلا بعد أن تدهور وضعهم لدرجة أنهم كانوا في حاجة إلى المساعدة".
ومن العقبات الأخرى التي تقف أمام توفير الدعم النفسي في مشاريع أطباء بلا حدود اللغة والحواجز الثقافية والوقت القصير الذي يتاح للتواصل بين العاملين والمرضى وكذلك وصمة العار الاجتماعية التي غالباً ما تترافق بمشاكل الصحة النفسية.
مقاربات مختلفة
يتطلب كل وضع مقاربة مختلفة ينبغي أن تتبعها فرق أطباء بلا حدود من المرشدين وأخصائيي علم النفس والأطباء النفسيين. ويتلقى المرشدون في بعض الحالات تدريبات لمساعدة الناس في الحديث عن تجاربهم وعلاج مشاعرهم وتعلم كيفية التعامل معها. وفي حالات أخرى، ينفذ أخصائيو علم النفس جلسات علاج فردية تركز غالباً على مناحٍ معينة.
يتلقى أمير* البالغ من العمر 35 عاماً العلاج على يد طواقم أطباء بلا حدود في مدينة السليمانية الواقعة في جنوب العراق. غادر أمير بيته في صلاح الدين حين حاصرت الجماعة التي تطلق على نفسها الدولة الإسلامية مدينته وقطعت إمدادات الطعام. ثم بدأ يعاني من القلق والأرق.
يقول أمير: "كنت أعاني سابقاً من ألم في معدتي وصدري، فذهبت إلى الأطباء إلا أنهم لم يساعدوني. لكن حين بدأت أتلقى العلاج على يد أخصائي نفسي في أطباء بلا حدود، كان ذلك مفيداً جداً لي. وقد شجعني على أن أخرج كل يوم من خيمتي وأن أختلط بالناس وأمارس الرياضة وأتجنب أن أكون وحيداً في البيت".
تمثل التوعية الاجتماعية جانباً آخر للرعاية الصحية النفسية، حيث تتلقى المجتمعات معلومات حول أهمية الرعاية الصحية النفسية والعلامات والأعراض التي ينبغي البحث عنها. هذا ويمكن تنفيذ التوعية النفسية والإرشاد في مجموعات تركز على مواضيع معينة مرتبطة بالأوضاع الراهنة.
تلجأ فرق أطباء بلا حدود إلى مقاربات مبتكرة للمساعدة في التوعية بأهمية الرعاية النفسية. ففي مويسو، وهي بلدة تقع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية يقطنها الكثير من النازحين الذين يعيشون جبناً إلى جنب مع السكان المحليين، تحول مرشدو الصحة النفسية التابعون لأطباء بلا حدود إلى فنانين، إذ تجدهم يتواصلون مع المشاهدين الذين قد يصل عددهم إلى 200 شخص من خلال الموسيقى والرقص والمسرح. ويقومون من خلال أدائهم بإعلام الناس بوجود أطباء بلا حدود في المكان وبأنهم هنا للاستماع إلى الناس ومساعدتهم.
أفكّر كثيراً وأشعر بالقلق ولا يمكنني أن أنام. أبقى مستيقظاً طوال الليل، جالساً في إحدى الزوايا حتى يطلع الصباح، ولهذا أمرض كثيراً.أمير* الذي يزور عيادة أطباء بلا حدود في مدينة السليمانية في جنوب العراق
من المهم في جميع الحالات فهم البنى التي تتواجد في المجتمعات التي يعيش فيها المرضى والدعم العاطفي الذي من شأن تلك البنى تقديمه لهم. وحين تبدأ فرق أطباء بلا حدود المعنية بالصحة النفسية عملها في مجتمع جديد، فإن من أولى الخطوات التي تتخذها هي البحث عن قادة المجتمع القادرين على أن يدلّوا الفريق على الاستراتيجيات التي ستناسب احتياجات الناس أفضل تناسب. إذ أن المجتمعات غالباً ما تكون بحاجة إلى إعادة بناء ذاتها ككل للمساعدة في تعزيز هوية الناس الذين يعيشون فيها.
وفي كثير من الأحيان يكون عددٌ من أعضاء فرق الصحة النفسية التابعة لأطباء بلا حدود من المجتمعات التي تخضع للتقييم، وهو أمر يمكن أن يحقق فائدة كبيرة. فهم على علم بالمـُحرّمات الاجتماعية التي تتعلق بالصحة النفسية وكذلك الأحداث الصادمة التي تعرض لها الناس أو أنهم يتعرضون لها.
وتقول ستانلي، وهي مرشدة تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود في جمهورية الكونغو الديمقراطية: "بوصفنا مرشدين، فإننا نساعد مرضانا من خلال الاستماع إليهم، لكننا قادرون كذلك على التواصل معهم من خلال التجارب التي نعيشها معاً. فحين يأتي إلينا شخصٌ يعاني لأنه فقد منزله، تجدني أقول له: ’آه، لقد فقدت منزلك. أنا أفهم كم أن هذا يؤثر فيك بعمق، فقد حدث هذا لي‘. تقوم جلساتنا قبل كل شيء من أجل مساعدة المرضى، غير أنها تعكس كذلك تجاربنا المشتركة التي تتيح لنا كمرشدين أن نحصل على المواساة".
يرسم السياق المحلي وتفاصيله الخاصة السبيل الأفضل أمام المنظمة لدعم المجتمع. ففرق الدعم النفسي متواجدة هناك لمساعدة الأفراد والمجتمع في الاستفادة من أدوات يمتلكونها أساساً بغية إعادة بناء ذواتهم.
لإتمام هذا العمل، ثمة مصدر قلق آخر يتعلق بالصحة النفسية يجب أن يأخذ أهميته التي يستحقها، ألا وهو عاملو أطباء بلا حدود. فهم غالباً بعيدون عن بيوتهم، ومعرضون للضغوط التي يفرضها عمل الطوارئ، ويتعين عليهم التعاطي مع القصص الصادمة للناس الذين يقابلونهم، ولهذا غالباً ما يكونون بحاجة إلى من يستمع إلى أوجاعهم والمشاكل الأخرى التي تعترضهم.
غالباً ما يصبح الدعم النفسي ضرورة قصوى حين يعودون من عملهم في مشاريع أطباء بلا حدود. وهنا يكون أفراد طاقم أطباء بلا حدود بحاجة إلى إعادة اكتشاف ذواتهم والعودة إلى حياتهم بعد أن مروا بتجارب يمكن أن تكون قد خلفت تبعات نفسية عليهم. تجد الكثير منهم يعانون من معرفة أن عودة الكثير من المرضى الذين قابلوهم إلى بيوتهم ليست خياراً في الأساس وأنه لا تزال أمامهم طريق طويلة.
لكن من المهم جداً أن يجدوا معنى لتجاربهم وأن يعيدوا التأقلم مع روتينهم الاعتيادي. حينها فقط سيكونون جاهزين للذهاب إلى مشروع جديد إن أرادوا، حيث سيكون في وسعهم رعاية الجراح المرئية والخفية لمرضاهم.