على مدار العقد الماضي، اتبعت أطباء بلا حدود نهجًا جديدًا في مجال الرعاية النفسية، إذ عملت تدريجيًا على إدماجها في جميع الأنشطة.
واليوم، تحتل الرعاية النفسية الصدارة في مشاريعنا سواء في أميركا اللاتينية، أو إفريقيا أو آسيا أو في البحر الأبيض المتوسط أو حتى في أوروبا. وخلال الأعوام العشرة الماضية، ارتفع عدد الاستشارات النفسية في مشاريعنا بنسبة 230 في المئة في جميع أنحاء العالم.
وهذا الارتفاع هو خير برهان على تغير النهج الّذي نتبعه وعلى الاحتياجات النفسية المعقدة والمتنوعة التي تواجه الناس في مختلف السياقات، سواء كانوا جرحى حرب أو أطفال تعرضوا لصدمة في الشرق الأوسط أو عائلات فرت من النزاع وقطعت رحلات محفوفة بالمخاطر عبر إفريقيا وأميركا الوسطى والبحر الأبيض المتوسط.
النقص في الخدمات
يقول مستشار الصحة النفسية في أطباء بلا حدود، ماركوس مويانو، "نظرًا لافتقار الأماكن التي نعمل فيها إلى جهات توفر هكذا خدمات، نضطر غالبًا إلى البدء ببرامج للصحة النفسية من الصفر. وقد زرت مؤخرًا المشاريع في اليونان، حيث نقدم دعمًا متخصصًا في الصحة النفسية للاجئين والمهاجرين وطالبي اللجوء. وبلغت المعاناة التي يتعرض إليها هؤلاء الناس والحاجة إلى رعاية الصحة النفسية أعلى المستويات التي شهدناها. ومع ذلك، لا يقدم سوى عدد ضئيل من المنظمات الرعاية المتخصصة لهؤلاء الأشخاص".
وإلى جانب النقص في الخدمات، نواجه أيضًا التحديات التي تفرضها المحظورات الاجتماعية ووصمات العار والشكوك التي تحوم حول الصحة النفسية في مناطق عدة في العالم. وعليه، لا بد أن نعمل مع المجتمعات لنشر الوعي وتثقيف الناس حول أهمية الصحة النفسية. فرغم التحديات المتعددة التي يفرضها توفير الدعم في حالات الطوارئ أو معالجة الأشخاص الذين تأثروا بالنزاعات والحروب، تبقى تلبية احتياجات الصحة النفسية أولويةً لفرقنا.
بلغت المعاناة التي يتعرض إليها هؤلاء الناس والحاجة إلى الرعاية النفسية أعلى المستويات التي شهدناها.ماركوس مويانو، مستشار الصحة النفسية في أطباء بلا حدود
العيش تحت وطأة الاحتلال في فلسطين
وفي فلسطين، يعيش السكان في ظل الاحتلال المستمر ويعانون بصورة مستمرة من العنف الشديد. ونتيجة لذلك، يعاني الأشخاص المجبرون على العيش في هكذا ظروف من اضطرابات نفسية متعددة. فيصل الأشخاص إلى عياداتنا وهم يعانون من أعراض مختلفة كالحزن والغضب واليأس والكوابيس والتبول اللاإرادي والأفكار الانتحارية.
وفي غزة، يلتقي مستشار نفسي مع مرضى المنظمة الّذين يعانون من الإصابات البالغة والحروق ومرافقي المرضى لمساعدتهم على تخطي تجاربهم المؤلمة وتوفير فرص أفضل للتعافي. وفي منطقتي الخليل ونابلس، يقدم الفريق المكون من اختصاصيين ومستشارين نفسيين جلسات فردية أو جماعية للراشدين والمراهقين والأطفال.
وتقول مريم خضيرات التي تعيش في الخليل، "إننا نعيش حياةً صعبة. فجميع المستوطنين من حولنا مسلحون. كان أطفالي يمشون مع الأغنام فهاجمهم المستوطنون والجنود. وكان بعض المستوطنين يحملون سلاحًا ومنهم من كان برفقة كلاب. نشعر بالخوف والتهديد على مدار الساعة. وينتابنا الخوف حتى عندما نجلس لنتناول الطعام".
ويقول منسق مشروع أطباء بلا حدود في الخليل، صلاح دراغمة، "نوفر الدعم النفسي لسكان منطقة الخليل، لكن لا يمكننا أن نجد حلًا للعنف الّذي يلحقه المستوطنون بالسكان الفلسطينيين، إذ يقع ذلك على عاتق السلطات الإسرائيلية".
نشعر بالخوف والتهديد على مدار الساعة. وينتابنا الخوف حتى عندما نجلس لنتناول الطعاممريم خضيرات، من سكان الخليل
الخوف الدائم من النزاع في أوكرانيا
بعد سبع سنوات من النزاع، أصبحت احتياجات الصحة النفسية في البلدات والقرى القريبة من خط المواجهة في شرق أوكرانيا مرتفعة بشكل مقلق. ويرزح أشخاص كثيرون تحت الخطر جراء العنف المستمر منذ عام 2014.
وما زال التأثير النفسي الّذي خلفه النزاع منتشرًا منذ وقت طويل. هذا وباتت الصدمات التي تسبب بها اندلاع النزاع من جهة والتهديد المستمر الناجم عن الانفجارات وإطلاق النار والقصف والألغام من جهة أخرى جزءًا من الحياة اليومية للأشخاص الّذين يعيشون في ظل النزاع.
تلعب قدرة المجتمعات على الصمود والجهد الّتي يبذله المتطوعون والمنظمات المحلية دورًا أساسيًا في حماية الأشخاص المحتاجين ودعمهم.ماركوس مويانو، مستشار الصحة النفسية في أطباء بلا حدود
وتقول المتطوعة في أطباء بلا حدود في كاميانكا في منطقة دونيتسك، تاتيانا كاراديليي، "كانت ابنتي تقف أمامي، على بعد عشرة أمتار. بينما كنت أقف على عتبة الباب. وفجأة، بدأ إطلاق النار. لا أتذكر سوى أنني أصبت في رأسي. عندما استيقظت، كان حفيدي يحضنني ويقول لي إنني على قيد الحياة وإننا بخير. وفي هذه اللحظة، فقدت قدرتي على التحمل. أنا امرأة قوية لكن لم يكن بوسعي إلا أن أنهار في هذه اللحظة. تعجز الكلمات عن وصف شعور الخوف. إننا لا ننعم بالأمان أبدًا".
هذا ويرى الاختصاصيون النفسيون والأطباء والممرضون الّذين نعمل معهم في شرق أوكرانيا الكثير من المرضى الذين يعانون من الاكتئاب والقلق وغيرها من الاضطرابات الشائعة.
وتقول الطبيبة النفسية في أطباء بلا حدود، تاتيانا أزاروفا، "يعاني الناس في معظم الأوقات من التوتر الحاد والحزن الشديد جراء فقدانهم لأحبائهم أو منازلهم. علاوة على ذلك، تنتشر الاضطرابات المرتبطة بالقلق كالأرق على نطاق واسع".
أنا امرأة قوية لكن لم يكن بوسعي إلا أن أنهار في هذه اللحظة. تعجز الكلمات عن وصف شعور الخوف. إننا لا ننعم بالأمان أبدًا.تاتيانا كاراديليي، متطوعة في أطباء بلا حدود في كاميانكا في منطقة دونيتسك
علاوة على ذلك، غالبًا ما يتعذر على سكان البلدات والقرى تحمّل تكاليف التنقل إلى المدينة أو تحمّل تكاليف خدمات الصحة النفسية في القطاع الخاص، حتى لو تمكنوا من التغلب على وصمة العار المرتبطة بالأمراض النفسية والتماس الرعاية.
ويشكّل تدريب أطباء الأسر والممرضين وتقديم الدعم لهم لتوفير خدمات الرعاية النفسية للمجتمعات التي تأثرت بالنزاع في شرق أوكرانيا خير برهان على النهج الجديدة التي تتبعها فرقنا. ومع ذلك، تشتد الحاجة إلى دعم إضافي وبرامج إضافية لكيلا يترك أي مريض وحيدًا في معاناته.
تطور نهج الرعاية النفسية
يقول مويانو، "شهد العقد الأخير تقدمًا ملحوظًا في نشر الوعي حول احتياجات الصحة النفسية والفجوة المرتبطة بجودة الرعاية".
ويردف قائلًا، "وفي الوقت الراهن، زاد تركيز الحكومات والجهات المانحة والمجتمع الدولي على هذه النواحي. فمع انتشار جائحة كوفيد-19، رأينا كيف سُلّط الضوء على الصحة النفسية باعتبارها أحد الأركان الأساسية التي تؤثر على صحة الناس ورفاهيتهم".
ومع ذلك، ورغم تعزيز الوعي حول الصحة النفسية وتوفُّر علاجات فعالة لعلاج الاضطرابات النفسية، لا تصل نسبة الأشخاص الّذين يتلقون العلاج في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى 10 في المئة من بين الأشخاص الذين يحتاجون للعلاج.
ويضيف مويانو، "في السنوات القادمة، سنستمر على الأرجح في مواجهة مستويات عالية من المعاناة الإنسانية جراء كوارث طبيعية أو كوارث من صنع الإنسان، وستواجه الحكومات والمنظمات تحديات في توفير استجابة فعالة. في المقابل، تلعب قدرة المجتمعات على الصمود والجهد الّتي يبذله المتطوعون والمنظمات المحلية دورًا أساسيًا في حماية الأشخاص المحتاجين ودعمهم".