كجزء من استجابتها الطبية لأزمة اللاجئين السوريين، تدير منظمة أطباء بلا حدود برنامج صحة نفسية يقدم الدعم النفسي لمئات المرضى في مخيم دوميز للاجئين شمال العراق. الفرق تلتقي بالمرضى الذي اختبروا أحداثاً صادمة كنتيجة مباشرة للحرب في سوريا، أو ممن يعانون بسبب الظروف التي واجهوها في المخيم. كثيرون تم تشخيصهم باضطرابات نفسية عائدة للنزاع، ولكون أوضاعهم محكومة بالاضطراب، فإنه من المحتمل أن يمضوا وقتاً طويلاً من دون الوصول إلى العلاج أو الرعاية الطبية.
خدمات أطباء بلا حدود للصحة النفسية في دوميز متاحة ستة أيام في الأسبوع، ويقدم فريق مكون من أربعة استشاريين ما بين 70 و100 جلسة في الأسبوع للأفراد والعائلات والمجموعات. يعملون سوية مع الأطباء والممرضين وعمال الصحة المحليين للكشف والتشخيص وتقديم رعاية صحية نفسية شاملة.
تعمل د. هنريك زلمان، وهي طبيبة نفسية ألمانية الأصل، مع أطباء بلا حدود في مخيم دوميز منذ أغسطس/آب 2013. وهي تمارس عملها مع فريق مؤلف من طبيب نفسي عراقي واثنين سوريين. تشرح د. زلمان هنا كيف تتنامى احتياجات الصحة النفسية في المخيم، وكيف تصبح خدمات أطباء بلا حدود أساسية بشكل متزايد.
وضع متفاقم
في مخيم دوميز للاجئين، نرى بالفعل وضعاً يزداد سوءاً من ناحية الاحتياجات النفسية. الناس خائبو الأمل بشدة. حين وصلتُ للمرة الأولى، كان يمكن أن يحصلوا على بعض الأمل بأن الوضع سيستمر لعدة أشهر فقط. الآن، الجميع يدرك أن الوضع لن يتحسن، ولا يعرفون إن كان سينتهي أو متى سيحصل ذلك.
وتعتبر الصحة النفسية لدى اللاجئين هشة. هناك الكثير من المسببات التي ستؤدي إلى تدهور حالتهم النفسية بسرعة: ظروف الحياة التي يجبرون على مواجهتها منذ الوصول إلى المخيم، ذكريات النزاع الدائر في سوريا، وعدم اليقين من موعد نهايته أو حتى إن كانوا سيرجعون إلى حياتهم الطبيعية على الإطلاق.
فإذا كنت تحيا في حالة من عدم اليقين، ستتأثر صحتك النفسية بشكل هائل. يحيا اللاجئون في هذه الحالة باستمرار، إذ في الوقت الحالي، ليس لديهم الكثير من الأمل. وليس لديهم سبب ليأملوا بتحسن الوضع في المستقبل القريب.
اضطرابات نفسية حادة
إننا نرى الكثير من الناس لديهم المزيد من الاضطرابات النفسية الحادة، الذهان مثلاً. بوجود شعور متصاعد باللاجدوى بين اللاجئين، فإن الشكاوى التي نتعامل معها تصبح أكثر تعقيداً. على الرغم من أن صدمة الحرب والظروف المعيشية غير الملائمة لن تكون السبب الوحيد لنوباتٍ من الذهان، لكن بالتأكيد قادرة على إطلاقها.
"الجميع يدرك أن الوضع لن يتحسن، ولا يعرفون إن كان سينتهي أو متى سيحصل ذلك."د. هنريك زلمان، طبيبة نفسية في مخيم دوميز في العراق.
منذ عدة أسابيع مضت، جاءت امرأة إلى عيادتنا بأعراض للهذيان. اعتقدتْ أنها حامل بـ 11 طفلاً. أثار قلقنا أن لديها ثلاثة أطفال، ولا نعرف ما هو الوضع بالنسبة لهم في المنزل. ذهبنا لنزورها لنجد أن ظروفها مقبولة، وأنها تحصل على الكثير من الدعم من الجيران. سوف نراقب حالتها عن قرب ونشجعها على الاستمرار بزيارتنا لحضور الجلسات. العار المصاحب لمسائل الصحة النفسية يمكن أن يشكل عائقاً كبيراً هنا، لذلك كان أمراً جيداً أن نعرف في هذه الحالة أن المجتمع كان يبدي تضامناً معها.
حين أرى كيف يتأثر الأطفال هنا، من الصعب تخيل ما الذي يمرون به. لدي شعور بأنهم يخسرون الزمن لا أكثر، بأن سنينهم تُهدر. لا يوجد الكثير للأطفال هنا: الكثيرون ما زالوا عاجزين عن الذهاب إلى المدرسة بما أنه لا يوجد ما يكفي من الخدمات في المخيم. لذلك يمضون أيامهم باللعب في التراب، والبعض كان عليهم أن يجدوا عملاً ليساعدوا في دعم عائلاتهم، والمراهقون في عمر 13 و14 سنة يعملون وغير قادرين على إتمام تعليمهم.
جلسات الاستشارة مع الأطفال
حين نجري جلساتٍ مع الأطفال، من المهم جعلهم يفهمون أن ردود أفعالهم طبيعية. إنهم يحيون وضعاً غير طبيعي على الإطلاق، ولكنهم بحاجة ليعوا أن كيفية رد فعلهم هي أمر يمر به معظم أصدقائهم.
أحد الأعراض الأكثر تكراراً التي نراها لدى الأطفال التبول اللاإرادي، هذه حالة تتسبب بعبء إضافي على الأهل الذين لا يعرفون عادة كيف يتعاملون معها. كما يمكنها أن تزيد التوتر في علاقتهم مع الطفل، بما أن الطفل قد يشعر بالعار والحرج.
جاءنا طفل عمره 10 سنوات يعاني من هذه المشكلة. كان عليه أن يأتي إلى العراق منذ عدة أشهر والتم شمله مع أسرته في المخيم. شرحنا له أن ما يمر به عادي، وأعطيناه بعض النصائح حول كيفية تجاوز المشكلة، وأكدنا له أنه ليس بالأمر الجلل. كانت مراقبة رد فعله وارتياحه رائعة، وذلك فقط عبر التحدث إليه بانفتاح حول المسألة، استطاع أن يتجاوز الكثير من إحراجه.
جراح خفية
جراح الصحة النفسية عادة خفية لكثيرين، ولكن فريقنا بالفعل يرى أن هذه الجراح عميقة جداً. وأحد الأمور الرئيسية التي نقوم بها ببساطة هي منح المرضى وقتاً للتعبير عن أنفسهم. يعمل المريض والمستشار سوية ليجدوا طرقاً للتأقلم مع الوضع، وتخفيف الأعراض وفي النهاية امتلاك القدرة على التحكم بردود أفعالهم. الكثير لا يريدون الإثقال على عائلاتهم بمشاكلهم الخاصة، لذلك، فالحديث إلى شخص من خارج العائلة في بيئة من السرية يساعدهم بالفعل.
أحياناً يصل الناس إلى العيادة في حالة من الاستياء والصدمة الشديدين. يبكون أو يطلقون الضغط فقط، نحن قادرون على تأمين مساحة آمنة للمرضى ليعبروا عن أنفسهم ويعملوا على ردود أفعالهم ويشعروا أنهم ليسوا خارجين عن الطبيعي أو أنهم يصابون بالجنون. منذ لحظة إغلاق الباب، نمضي وقتاً معهم ونستمع إليهم. دون أن نتطفل، سوياً مع المريض، نساعدهم على الشفاء. على الرغم من أن الجراح يمكن أن تشفى، المعاناة قد لا تختفي. ولكن إن استطعنا مساعدتهم لإيجاد طرقٍ لتأقلم أفضل وللتعامل مع هذه المعاناة، فيعتبر ذلك إنجازاً صغيراً.