تنجرف عوامة مصنوعة من الأغطية البلاستيكية ومملوءة بالعشب الجاف على طول نهر النيل، تحمل على متنها عائلة تتألف من ثمانية أشخاص، أصغرهم طفل رضيع.
تحمل العوامة على متنها جميع ممتلكاتهم: بعض الملابس وبعض أواني الطهي التي مُلئ أغلبها بزنابق الماء التي قطفوها من الماء. وتلوح من ورائهم قريتهم التي غمرتها مياه الفيضانات بالكامل تقريبًا.
كان على العائلة المغادرة بشكل سريع قبل أن يصبح مستوى المياه مرتفعًا جدًا ويصبح من الصعب عليهم الخوض فيها. وقد فر أفرادها على متن العوامات أو الزوارق المصنوعة من جذوع الأشجار بحثًا عن برّ آمن.
وفي حين تعاني الكثير من بلدان شرق إفريقيا من أسوأ جفاف شهدته منذ أربعة عقود، يواجه جنوب السودان وضعًا معاكسًا تسوده سنوات من الفيضانات الشديدة التي أثرت على حياة أكثر من مليون شخص في البلاد.
وما يزيد الطين بلة، كانت الاستجابة للدمار الناجم عن الفيضانات أقل من المستوى المُرضي بشكل كبير. إذ ينبغي على المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة تكثيف جهودها لمواجهة حجم الأزمة وتلبية الاحتياجات الملحّة للأشخاص المتضررين من الفيضانات للضروريات الأساسية على غرار الغذاء والمأوى والرعاية الطبية وغيرها من الاحتياجات.
ونتيجة لأربعة سنوات متواصلة من الفيضانات، غُمر حوالي ثلثي البلاد تحت المياه، فقدت شهدت ولايات جونغلي وشمال بحر الغزال وأعالي النيل ويونيتي وواراب وغرب الاستيوائية والبحيرات في جنوب السودان ومنطقة أبيي الإدارية الخاصة فيضانات شديدة خلال الأشهر القليلة الماضية.
وفي حين تعدّ الفيضانات الموسمية لنهر النيل وروافده قياسية، إلّا أن الفيضانات التي شهدتها البلاد خلال السنوات القليلة الماضية تعتبر غير مسبوقة. إذ يفيد السكان بأنّ موسم الأمطار قد بدأ في وقت مبكّر ودام لفترة أطول، كما أنّ شدّة الأمطار تعدّ أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق.
كانت مستويات المياه مرتفعة للغاية وكانت التربة مشبعة بالمياه بشكل كبير يمنع انحسار المياه بالكامل خلال مواسم الجفاف الفاصلة. ونتيجة لذلك، تحدث الفيضانات بشكل سريع عند هطول الأمطار، وهو ما فاقم الأزمة كل عام بشكل متتالٍ منذ عام 2019.
تستعدّ المجتمعات لموسم الأمطار عبر بناء السدود، وهي عبارة عن جدران ترابية تهدف إلى حجز المياه عن القرى. ولكن استعدادات الطوارئ لم تكن كافية لوقف طوفان المياه هذا العام. ففي مقاطعة أونلانغ، على سبيل المثال، غُمرت قرى بأكملها خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول إثر انهيار السدود جراء الأمطار الغزيرة. فقد غمرت المياه المرافق الصحية والمدارس والكثير من المنازل.
وفي هذا السياق، يقول نيانييث، وهو أحد النازحين جراء الفيضانات في دوما في أولانغ، "لقد أدت الفيضانات إلى نزوح الجميع، إذ غُمرت جميع القرى وغرقت المواشي كذلك. تعرّض منزلنا للانهيار جراء الفيضانات وقد شكّل ذلك كارثة كبيرة بالنسبة لنا".
وبين اليوم والآخر، تنفصل القرى عن بعضها البعض، إذ أصبحت العديد من المجتمعات محصورة في "جزر" ومنقطعة عن الخدمات التي لا يمكن الوصول إليها سوى عبر القوارب أو الزوارق. لذلك، تدير فرق أطباء بلا حدود خدمات التوعية الميدانية وعيادات متنقلة لضمان حصول الأشخاص الأكثر حاجة في المناطق النائية على الرعاية الصحية. وعلى الرغم من ذلك، مازال الوصول إلى بعض المجتمعات يشكّل تحديًا.
وفي هذا الصدد، تقول رئيسة بعثة أطباء بلا حدود في جنوب السودان، ألين سرين، "تؤثّر الفيضانات على قدرتنا على تقديم المساعدة والوصول إلى المجتمعات التي تحتاج إلى المساعدة. فقد أصبحت الكثير من الطرق في جميع أنحاء البلاد غير سالكة جراء الفيضانات. وفي الكثير من المواقع التي نعمل فيها، لم تتمكّن طائراتنا من الهبوط جراء المياه التي تغمر مهابط الطائرات".
وتضيف، "ويحول عدم تمكننا من الوصول إلى هذه المجتمعات دون قدرتنا على إحضار الإمدادات الطبية والمواد الأساسية الأخرى، وهو ما يعرّض حياة الناس للخطر. ويؤثر كذلك على قدرتنا على إحالة المرضى الذين يحتاجون إلى تلقي العلاج الطارئ".
فضلًا عن ذلك، أصبحت المساحات الشاسعة من مياه الفيضانات الراكدة أرضًا خصبة لتكاثر البعوض، ما أدى إلى انتشار الملاريا بشكل كبير. فبين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول من هذا العام، عالجت فرق أطباء بلا حدود 81,104 مرضى أصيبوا بالملاريا.
كذلك، أدت الفيضانات إلى نزوح مئات آلاف الناس ونفوق ملايين المواشي وتدمير آلاف الأفدنة من المحاصيل، وهو ما أدى بدوره إلى تفاقم أزمة الأمن الغذائي المتصاعدة في البلاد. فبحسب تقديرات برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، يحتاج أكثر من 75 في المئة من الناس في جنوب السودان إلى المساعدة الغذائية.
وتشهد فرقنا ارتفاعًا مقلقًا في معدلات سوء التغذية الحاد التي تتراوح بين متوسطة وشديدة. فبين يناير/كانون الثاني وسبتمبر/أيلول من هذا العام، تلقى أكثر من 4,200 طفل مصاب بسوء التغذية العلاج في مرافقنا الطبية الواقعة في أنحاء جنوب السودان.
ولجأ عشرات آلاف الأشخاص إلى العيش في مخيمات النازحين في ظل عدم وجود مكان آخر يمكنهم الذهاب إليه. ويؤدي الافتقار إلى المأوى والمياه الآمنة الصالحة للشرب ومرافق الصرف الصحي في المخيمات إلى تفشي الأمراض المعدية والأمراض المنقولة بالمياه وإلى مخاطر صحية أخرى. وقد كانت النتيجة كارثة إنسانية بالنسبة للأشخاص الذين يعانون أساسًا من هذه المشاكل.
ورغم حلول بداية موسم الجفاف، لا يبدو أنّ هناك مهلة تلوح في الأفق، إذ يُتوقّع أن يؤدي الأثر المدمر لفقدان المحاصيل والثروات الحيوانية إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية. ونظرًا لكون أغلبية سكان جنوب السودان يعدّون من رعاة المواشي، يرتفع خطر حدوث الهجمات بهدف استعادة الحيوانات التي فُقدت خلال الفيضانات، وهو ما قد يسبّب اندلاع أعمال العنف بين المجتمعات.
وعلى الرغم من الاحتياجات الإنسانية العاجلة والمتزايدة في جنوب السودان، أدى تقليص المساعدات الدولية إلى تضاؤل الاستجابة لاحتياجات الأشخاص الذين يعانون من شحّ الموارد بعد تعرّضهم لسلسلة من الأزمات المتتالية. لذلك، ينبغي توسيع نطاق الاستجابة الإنسانية بشكل عاجل لضمان حصول الأشخاص الذين مازالوا يعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر على الضروريات الأساسية كالغذاء والرعاية الصحية والمأوى.