Skip to main content

"أشبه بليلٍ طويلٍ لا نهاية له... يزداد سواده رويداً رويدا"

الدكتور إ. جراحٌ في أحد المستشفيات الميدانية شمال حمص، وهي منطقةٌ تعيش حصاراً مطبقاً منذ أكثر من سنة.

الهروب من الموت إلى الحصار

حين أقول بأن قريتنا آمنةٌ نسبياً أعني بذلك أن الغارات التي تطالنا منتظمةٌ لكنها ليست يومية. تعرضت الأسبوع الماضي مدرسةٌ يديرها متطوعون للدمار حين أصابتها قذيفة. أدت موجة الصدمة إلى تحطم زجاج نوافذ مستشفانا، وقمنا مباشرةً بنقل المرضى إلى القبو. نحن عالقون بين جبهتين مشتعلتين وحين تكتظ المستشفيات الميدانية الأخرى فإنهم يرسلون لنا الجرحى الذين يصلون إلينا في سياراتٍ عاديةٍ نظراً لعدم كفاية الوقود لتشغيل سيارات الإسعاف.

العيش تحت الحصار أشبه بليلٍ طويلٍ لا نهاية له... ليلٌ يمكن لسواده الحالك أن يزداد سواداً. نفذت منا الأغذية الأساسية والإمدادات الطبية مراتٍ كثيرة، ونحاول جاهدين الإبقاء على مؤونة إضافية. أصبحنا اليوم أكثر تنظيماً، ونسعى بقدر ما نستطيع إلى تخطيط معدلات استهلاك المواد الطبية الأساسية.

ثمة منظمة تغطي بعضاً من رواتبنا المحدودة ونفقاتنا الأخرى كالوقود والصيانة. لكن منظمة أطباء بلا حدود هي الوحيدة التي تزودنا بالأدوية، ونحاول أن نحتفظ بمحزونٍ منها كلما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. لكن ثمة في شمال حمص مناطق يضربها حصارٌ أكثر شدة – كالحولة – ولا مجال البتة لتخزين أيّ شيء. لم يبقى الوضع عشوائياً كما كان في السابق، فقد مرّت أربع سنوات. وهذا الوضع سيستمر لفترة أخرى.

لقد اكتظت قريتنا بآلاف النازحين من كافة أنحاء حمص. فقد فروا من وجه الموت لكنهم يعيشون اليوم حالة حصار. وكان مستشفانا الميداني الصغير قد أنشئ لعلاج الجرحى، لكن مع مرور الوقت وجراء الحصار فإننا نعاين اليوم الكثير من الأطفال والنساء الحوامل والمرضى المسنين. يعد عبور الحواجز للوصول إلى المستشفيات الحكومية أمراً في غاية الخطورة، ويفضل العديد من المرضى الحصول على العلاجات المحدودة المتوفرة في شمال حمص على المخاطرة والقيام بهذه الرحلة.

ثمة الكثير من الثغرات، فالرعاية الصحية للأمهات محدودةٌ للغاية، كما لا يوجد سوى طبيبي عظمية وأربعة جراحين عامين لخدمة ما يقرب من 350,000 نسمة. أعمل طبيباً عاماً ونتناوب فيما بيننا ضمن المستشفيات الميدانية القليلة الموجودة شمال حمص حيثما دعت الحاجة، إذ أننا نعمل ساعات طوال مقابل أجر زهيد. 

سأمنح المتطوعين شهادات لو كان الأمر بيدي

يدعم العديد من المتطوعين الذين لا يعرفون الكلل هذه المستشفيات الميدانية. ليسوا حاصلين على شهادات، لكنهم يتمتعون بخبرة الحرب، وسأمنحهم جميعهم شهاداتٍ لو كان الأمر بيدي. ليس بمقدورنا الحصول على الأدوية بأية وسيلة رسمية. فحتى أبسط الإمدادات تعاني من الندرة ولذلك نقوم بصنع الشاش بأنفسنا بكمياتٍ محدودةٍ جداً لكنها أفضل من لا شيء. لا يمكن عملياً شراء أكياس الدم أو مستلزمات التخدير، ويخاطر الناس بحياتهم كي يحضروا القليل منها. كان يسمح بإدخال اللقاحات، لكن ذلك أضحى غير ممكن منذ أربعة أشهر.

يُمنع علينا إدخال الدقيق والخميرة، ولا تسمح لنا نقاط التفتيش إلا بثمانية أرغفة خبز كل مرة. نلجأ إلى ما توفر من حبوبٍ إلا أن طعمها لم يعد يشبه الخبز الذي تعودنا على أكله. كل ما يتوفر في السوق باهظ الثمن ويكلف أربعة أو خمسة أضعاف ما كان يكلف قبل الحرب. حتى أولئك الذين كانوا يمتلكون بعض النقود قد نفذت مدخراتهم تقريباً. وبالطبع تعد الكهرباء والمياه النظيفة من الكماليات.

نعيش جميعنا هنا تحت ضغوط كبيرة، فأنا لم أغادر المنطقة منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا يمكنك تخيل شعوري. لدي ثلاثة أطفالٍ لكنني لا أجد الوقت الكافي لقضائه معهم. أعمل كالرجل الآلي ليل نهار وأذهب إلى منزلي لرؤية أسرتي كلما استطعت.

لقد أجبر العنف الكثير من الناس على بناءٍ حياةٍ كاملةٍ لهم تحت الأرض، فثمة مدارس ومستشفيات ومنازل كلها تحت الأرض. يقع بيتنا في الطابق الثاني وتعرض المبنى للقصف الخميس الماضي. حياتنا محكومةٌ بالخوف لكنني أختار العيش فوق الأرض طالما أنني حيّ. 

المقال التالي
سوريا
مقال رأي 11 مارس/آذار 2015