ترتدي هيام الحجيري نظاراتها الشمسية لتخفي دموعها وهي تستمع إلى معاناة ابنتها روان التي تبلغ من العمر 18 عامًا مع المشاكل النفسية. تتحدث روان بصوت يرتجف عن المعاناة التي كانت تعيشها في المنزل بسبب العلاقات العائلية المضطربة وخوفها المستمر من والدها.
وتعترف بأنّ المشاكل العائلية قد جعلت منها شخصًا انعزاليًا وانطوائيًا يرهب التواصل مع الناس، وقد ساعدها العلاج النفسي على مجابهة هذا الخوف. فتقول، "كنت أرفض التماس الرعية النفسية، إلاّ أنني تعبت كثيرًا فقد تغير الكثير من الأشخاص الذين كانوا مقربين مني وأصبحوا ينفرون مني بسبب انطوائي على نفسي. لذلك، قررت التماس الرعاية النفسية".
وكما هو الحال مع ابنتها، قررت هيام المرأة الخمسينية والأم اللبنانية التي كرّست حياتها من أجل أطفالها، طلب الرعاية النفسية عندما لاحظت تداعيات مشاكلها الزوجية على علاقتها بأطفالها وعلى صحتهم النفسية.
وتقول، "أشعر بالندم لتأخري في طلب العلاج النفسي. لقد حاولت إيجاد حلول لمشاكلي بمفردي، إلاّ أنني لم أستطع القيام بذلك، فقد زادت رغبتي في الانعزال وتضاءلت قدرتي على تحمّل أطفالي وعلى التحاور معهم بشكل سليم. كنت أتمتّع بالنشاط والحيوية في السابق، إلاّ أنّ المشاكل النفسية قد حدّت من قدرتي على الحركة وبتّ أشعر بالإرهاق وبالعصبية بشكل مستمر".
وترى هيام في جلسات العلاج النفسي التي تلقّتها عاملًا مهما في تحسّن حياتها وعلاقاتها، "لقد تغيرت كثيرًا وأشجّع وجود هذا النوع من العلاج هنا في عرسال. الآن، أشعر بالكثير من النشاط، وأصبحت أتمتّع بجرأة أكبر، كما بدأت باستعادة تقديري لذاتي شيئًا فشيئًا".
تقدم أطباء بلا حدود في لبنان خدمات الصحة النفسية في بيروت وسهل البقاع وشمال لبنان، وتشمل هذه الخدمات العلاج النفسي والعلاج بالأدوية من قبل أطباء صحة عامة مدربين يعملون تحت إشراف أطباء نفسيين، بالإضافة إلى إحالة الحالات المعقدة إلى منظمات أخرى إثر المعاينة.
المعاناة اليومية
يتضح في عيادتنا مدى تأثير المشاكل النفسية على الكبار والأطفال الذين يرزحون تحت أعباء نفسية. فبينهم من يعاني من مشاكل زوجية ترخي بظلالها على أطفالهم وعلاقاتهم الاجتماعية وصحتهم النفسية، وتلك التي تواجه معاناة اللجوء في صمت وأخرى تعاني من تبعات وتداعيات التنمر والضغوطات الاجتماعية الأخرى، بينما تتعايش أخرى مع ألم فقدان شخص عزيز.
ولا تقتصر المشاكل النفسية على النساء والأطفال فقط، بل تطال الرجال كذلك، إذ يروي عنتر داوود، اللاجئ السوري الخمسيني الذي يعيش في الهرمل، رحلة تعافيه بعد تعرضه لحادث أدى إلى دخوله في غيبوبة وفقدانه للذاكرة ومعاناته مع الصرع وغيرها من المشاكل الصحية.
يقول عنتر، "كنت أعاني من نوبات صرع ومن تشنج الأعصاب وأصل إلى حالة لا أتمكّن فيها من التعرف على أطفالي. لم أكن أعي ما أفعله وكنت أتحول إلى شخص آخر. بكل بساطة، لم يعد زوجتي وأطفالي يتعرفون عليّ. ورغم مرور ست سنوات على حادثة عظي لابنتي الصغيرة بدون وعي، لا تزال ابنتي تخاف مني ومن الصعب والمؤلم تقبّل ذلك. فآخر شيء قد يريده الأب هو إيذاء أطفاله".
وبالإضافة إلى المشاكل الصحية، يعاني عنتر من وطأة الضغوطات الهائلة الناجمة عن الظروف المعيشية الصعبة للاجئين بالإضافة إلى فقدانه لقدرته على العمل. فقد حملته البطالة وتغيّر المستوى المعيشي لعائلته على التفكير في الانتحار.
يقول عنتر، "حينها، قررت التماس الرعاية النفسية من أجل عائلتي. ليس بوسعي تغيير الوضع الإقتصادي والاجتماعي، ولكن يمكنني الحصول على المساعدة فيما يتعلق بصحتي النفسية".
غالبًا ما لا تلقى المعاناة النفسية آذانًا صاغية وتترك بدون علاج... كما يسود اعتقاد خاطئ بأنّه لا يمكن علاج الأمراض النفسية والشفاء منها. لكنّ العلاجات النفسية فعّالة، ومن الضروري أن يلجأ الناس إليها لتفادي تفاقم المشاكل.ريما مكّي، مديرة برامج الصحة النفسية في لبنان
وصمة العار والمفاهيم الخاطئة والأزمة الاقتصادية
تؤثر الأزمة الاقتصادية في لبنان على القطاع الصحي. فإذا كانت الخدمات الصحية متداعية اليوم، تعاني خدمات الصحة النفسية بشكل أكبر. كما تتعدد العوائق التي تحول دون الحصول على هذه الخدمات، إذ ترتكز معظم خدمات الصحة النفسية في لبنان على القطاع الخاص، وهو ما يصعّب إمكانية حصول الفئات الأكثر حاجة كالفئات الفقيرة واللاجئين على العلاج النفسي بسبب عدم قدرتهم على تحمّل تكاليفه الباهظة.
ويعاني قطاع الصحة العامة أساسًا من مشكلة نقص الموارد البشرية، والتي تفاقمت نتيجة موجات الهجرة الجماعية للأطباء خلال العامين الماضيين، بالإضافة إلى نقص التمويل الكافي لإدراج هذه الخدمات ضمن خدمات الرعاية الصحية الأولية (والمجانية). ويؤدي ذلك بدوره إلى انعدام القدرة على الحصول على هذه الخدمات، وخصوصًا بالنسبة للمجتمعات الأكثر حاجة والأشخاص الذين يعيشون في المناطق النائية.
وفي هذ الصدد، تقول مديرة أنشطة الصحة النفسية في أطباء بلا حدود في لبنان، ريما مكي، "غالبًا ما لا تلقى المعاناة النفسية آذانًا صاغية وتترك بدون علاج. فبالإضافة إلى التحديات الاقتصادية التي تواجهها الرعاية النفسية في البلاد، يعاني الناس من وصمة العار المرتبطة بمشاكل الصحة النفسية، لذلك، يترددون في طلب الرعاية النفسية في المرافق المتخصّصة".
وتضيف، "كما يسود اعتقاد خاطئ بأنّه لا يمكن علاج الأمراض النفسية والشفاء منها. لكنّ العلاجات النفسية فعّالة، ومن الضروري أن يلجأ الناس إليها لتفادي تفاقم المشاكل على غرار المضاعفات المرتبطة بالحالات المزمنة، فضلا عن تأثيرها على أداء الشخص لمهامه اليومية وانعزاله وعلاقاته الاجتماعية".
نشر الوعي والتدريب وإحراز التقدم
تدعم منظمة أطباء بلا حدود منذ عام 2017 وزارة الصحة العامة اللبنانية في تنفيذ "برنامج رأب الفجوة في الصحة النفسية" الذي أطلقته منظمة الصحة العالمية، والذي يهدف إلى إدراج خدمات الرعاية النفسية ضمن خدمات الرعاية الصحية الأولية كاعتراف مباشر بأهمية الصحة النفسية وبحق الجميع في الحصول عليها بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي والمعيشي وعن جنسيتهم.
وفي إطار هذا البرنامج، تشارك أطباء بلا حدود في تدريب طواقم التمريض التي تعمل في المراكز الصحية العامة على تقديم الإرشاد النفسي للأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية تحت إشراف اختصاصيين نفسيين وأطباء. ويهدف هذا البرنامج إلى تقديم استجابة سريعة ومتخصصة للأشخاص الذين تظهر عليهم أعراض حالات نفسية.