في ضوء إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن رؤيته في ما يخص أوروبا وشؤونها وهويتها، كتب رئيس بعثة أطباء بلا حدود في ليبيا جوليان ريكمان رسالة مفتوحة عبّر فيها عن النفاق في هكذا رؤية وفي القيم الأوروبية التي تتحدث عنها. إذ يبقى مصير اللاجئين والمهاجرين، بسبب سياسات الهجرة الأوروبية، إما الغرق في عرض البحر أو الاحتجاز في ظروف مهينة ووحشية في ليبيا.
نشر هذا النص باللغة الفرنسية في صحيفة "لوموند أفريقيا" بتاريخ 14 مارس/آذار 2019.
مصراته في 14 مارس/آذار 2019
إلى حضرة الرئيس إيمانويل ماكرون،
بقلم جوليان ريكمان، رئيس بعثة منظّمة أطبّاء بلا حدود في ليبيا
أودّ في خطابي هذا أن أردّ على النداء الذي دعيت فيه إلى "نهضة أوروبيّة" وعبرّت فيه عن التزامك بالحفاظ على "أوروبا التي تحمي قيمها وحدودها". وها أنا أسمح لنفسي بالتوجّه إليك مباشرة كي أطرح عليك ما أشهده بشكل يوميّ في ليبيا من عواقبَ نتيجة السياسات الأوروبيّة المعتمدة حالياً والتضحيات البشريّة والأخلاقيّة التي تتسبّب بها.
إنّني أعمل في منظّمة اطبّاء بلا حدود في ليبيا حيث يتواجد أعضاء فريقنا في تسع مراكز احتجاز يتم فيها احتجاز اللاجئين والمهاجرين بشكل عشوائيّ في منطقتيّ طرابلس ومصراته وحيث نحاول تلبيّة الاحتياجات الطبيّة لما يقرب من ثلاثة آلاف شخص. إنّ المسجونين في تلك المراكز مستضعفون، ولا ظهر لهم، وبالكاد نستطيع إلى جانب الفاعلين الآخرين مساعدتهم بشكل كاف.
تُعرّض البلدان الأوروبيّة، وأوّلها فرنسا، حياة الكثير من الأشخاص للخطر وتناقض مبادئها في استمرارها بتطبيق سياسات الهجرة.جوليان ريكمان
في الواقع، تستند المبادئ التأسيسيّة للاتحاد الأوروبيّ على رفض العنف القائم على الانتماء القوميّ أو الدينيّ. أما في ليبيا، نرى أشخاصاً خاضعين للاحتجاز العشوائيّ، يعاملون معاملة سيئة ويعانون من سوء التغذية والتعذيب ولا يُستثنى من ذلك النساء، أو الرضّع، أو الأطفال غير المصحوبين – من قبل ذويهم، فمنهم من يُحتجز في ظروف تنتهك حقوقهم الإنسانيّة وذلك بسبب أصلهم أو أوضاعهم الإداريّة.
في التقرير المروّع الذي أصدرته المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في شهر كانون الأوّل/ديسمبر الماضي (والذي جاء ليكمّل تقريراً مشابهاً نشر في العام 2016)، تبيّن أنّ التنبيهات التي وجّهتها المنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة بما في ذلك منظّمة أطبّاء بلا حدود والتقارير الإعلامية التي نشرتها لم تنجح في التأثير على الواقع اليوميّ الذي يعيشه السجناء في مراكز الاحتجاز في ليبيا.
بالإضافة إلى ذلك، يصل عدد المهاجرين المحتجزين اليوم إلى خمسة آلاف وسبع مائة مهاجر، عشرون في المائة منهم نساء، وخمسة وسبعون في المائة منهم أشخاص تعنى بهم المفوّضيّة. يقبع هؤلاء في مراكز الاحتجاز خلال أشهر طويلة ويتعرّضون للإساءة النفسيّة والجسديّة وحتى إلى الخطف أحياناً. وما من بديل أمام هؤلاء الأشخاص في ليبيا سوى الاعتقال.
أنتم تدركون ماهية ظروف الاحتجاز وتعلمون أنّها غير مقبولة، لماذا لا تتوقفون إذاً عن السعي قدر الإمكان من أجل إعادة المهاجرين واللاجئين إلى البلد الذين يحاولون الهرب منه لما يسببّه من خطر على حياتهم؟جوليان ريكمان
في الحقيقة، أنا مواطن أوروبيّ، أما أوروبا التي ترعى هذه الممارسات، فليست أوروبا التي أنتمي إليها. هل يوافق عدد كبير من المواطنين فعلاً على ما يعتمده رؤساؤهم من سياسات؟ منحت الحكومة الإيطاليّة قوارب لخفر السواحل الليبيّ، وأعلنت السلطات الفرنسيّة في شهر شباط/فبراير بأنّها ستفعل الشيء نفسه.
عند صدور هذا الإعلان في 21 فبراير/شباط، كنت حينها في ليبيا وتزامن ذلك مع عودة قارب من مدينة الخمس بعدما أمضى الراكبون على متنه يوماً ونصف في البحر. وصل عدد الراكبين يومها إلى مئة وستة عشر راكباً يتألّفون من رجال، ونساء وأطفال مستضعفين من بينهم رضيع بلغ من العمر ستة أشهر، وجميعهم كانوا يشعرون بالذعر وبالجوع الشديد ويعانون من انخفاض الحرارة في أجسامهم. وأُرسل يومها جميع الركاب إلى مراكز الاحتجاز في جوّ من الفوضى والارتجال.
ألا يحقّ لمن يرى بهجَة الرؤساء الأوروبيين- بتقليص عدد القادمين إلى أوروبا - أن يمتعض لمعرفته حقيقة تأثير الإجراءات التي قلصت هذه الأعداد؟ تتكّلم سيدي الرئيس عن إعادة إحياء أوروبا، لكنّي أرى بشكل يوميّ حقوق الإنسان تُنتهك تحت شعار حماية الحدود الأوروبيّة.جوليان ريكمان
ليت وزير الدفاع الفرنسيّ الذي أمر بمنع القوارب رأى ما الذي تعنيه عودة هؤلاء الأشخاص إلى ليبيا. في هذا الإطار، يصعب على العاملين في المجال الإنسانيّ تسليط الضوء على ما يحدث خوفاً من أن تزداد القيود التي تحد من إمكانيّة العمل في مراكز الاحتجاز. حتى أنّ ما يرد في هذا الخطاب من تعابير وكلمات قد رُوجِع مراراً وتكراراً للحد من احتمال تأثيره على أنشطتنا. ولا يسمح بنشر صور التقطت أو مقاطع سجّلت في مراكز الاحتجاز الليبيّة، حتى أنّ جمعَ الشهادات يعتبر أمراً صعباً أو حتى مستحيلاً أحياناً.
لقد فُقد أو توفي ما يقارب الألفين وثلاث مئة شخص في البحر الأبيض المتوسّط منذ العام 2018، معظمهم في المياه الليبيّة. أما اليوم، فقوارب الإنقاذ عالقة بين مناورات إداريّة وقانونيّة في حين توقفت المرافئ الآمنة عن استقبال الناجين إلى درجة أنّ بعض سفن الشحن أمست تتجاهل أحياناً القوارب التي تطلب النجدة خوفاً من أن لا تستطيع إنزال الركاب الذين تنقذهم لاحقاً. ويُساق الناجون لإرجاعهم إلى ليبيا على يد خفر السواحل الليبيّ أو سفن الشحن ما ينتهك القانون البحريّ الدوليّ، وقانون اللاجئين الدوليّ ومبادئ عدم الإعادة القسريّة.
ورغم ما يظهر على أوروبا من تألّمٍ عند إقرارها مراراً أنّها غير قادرة على استيعاب المعاناة في العالم، إلا أنّ أوروبا نفسها تتسبب بالمعاناة. إنّ الفاصل الذي نُصب في البحر الأبيض المتوسّط، وعدم توفّر أماكن كافية للاجئين في البلدان المضيفة، وعدم القدرة على تسليط الضوء على ما يحدث في نظام الاعتقال في ليبيا، تعتبر جميعها عوامل تزيد من المصاعب التي تواجه اللاجئين والمهاجرين وتسمح بتسلسل نظام من الاستغلال قادر على الإفلات من العقاب. وذكرت السلطات الليبيّة مرّات عدة أنّ القدرات التي تملكها محدودة لا سيما في السيطرة على ما يدور في بعض مراكز الاحتجاز.
إنّ الحاجة ملحة إلى إيقاف إعادة المهاجرين واللاجئين إلى ليبيا بل استقبالهم، والسماح للمنظّمات غير الحكومية بالمشاركة في عمليات البحث والانقاذ في البحر.جوليان ريكمان
ألا يحقّ لمن يرى بهجَة الرؤساء الأوروبيين- بتقليص عدد القادمين إلى أوروبا - أن يمتعض لمعرفته حقيقة تأثير الإجراءات التي قلصت هذه الأعداد؟ تتكّلم سيدي الرئيس عن إعادة إحياء أوروبا، لكنّي أرى بشكل يوميّ حقوق الإنسان تُنتهك تحت شعار حماية الحدود الأوروبيّة. أنتم تدركون ماهية ظروف الاعتقال وتعلمون أنّها غير مقبولة، لماذا لا تتوقفون إذاً عن السعي قدر الإمكان من أجل إعادة المهاجرين واللاجئين إلى البلد الذين يحاولون الهرب منه لما يسببّه من خطر على حياتهم؟ هل يمكن إعادة بناء أوروبا والاستناد على الكيل بالمكيالين في الوقت نفسه؟
أخيراً وليس آخراً، استنتاجاتنا بسيطة سيدي الرئيس، لا يمكن أن تبقى الأمور على حالها. تُعرّض البلدان الأوروبيّة، وأوّلها فرنسا، حياة الكثير من الأشخاص للخطر وتناقض مبادئها في استمرارها بتطبيق هذه السياسات. إنّ الحاجة ملحة إلى إيقاف إعادة المهاجرين واللاجئين إلى ليبيا، وإلى استقبال عدد أكبر من اللاجئين وضحايا الاتجار الموجودين حالياً في ليبيا، والسماح للمنظّمات غير الحكومية بالمشاركة في عمليات البحث والانقاذ في البحر، كما أنّ الحاجة ملحّة إلى المساهمة في توفير بدائل للاحتجاز العشوائيّ الذي يتعرّض له المهاجرون في ليبيا.