تقول سكنة فقيه، والدموع في عينيها، "في البداية بكيت ودعوت الله، ظنًا أن ابننا علي الذي يعيش معنا مع زوجته وأطفاله الخمسة قد أصيب. اعتقدت أن القصف قد طالنا وأنه جرح لأنني سمعته يصرخ".
علمت سكنة لاحقًا أن عليًا كان يناديهم ليركبوا السيارة ويجلوا.
تتذكر سكنة البالغة من العمر 85 عامًا اللحظة التي اضطرت فيها إلى الإجلاء من منزلها في قرية عيتا الجبل في جنوب لبنان. كانت قد تلقت أوامر الإخلاء المزعومة من القوات الإسرائيلية، والتي تَصدر أحيانًا قبل 15 دقيقة فقط من بدء الهجمات، ما يعني أن عائلات بأكملها تضطر إلى مغادرة منازلها بلا يقين بالوصول إلى مأمن.
كان ذلك بداية اشتداد الحرب، حيث تصاعدت وتيرة التفجيرات والقصف الإسرائيليين في جميع أنحاء لبنان في سبتمبر/أيلول 2024. ومع تحطم النوافذ وتساقط الأنقاض، لم يكن أمام الناس خيار سوى ترك كل ما يعرفونه. غادرت سكنة مع زوجها الذي يعاني من صعوبة في الحركة إثر عدة مشاكل صحية، وانطلقا معًا في رحلة مروّعة شمالًا استغرقت 14 ساعة إلى عكار – تستغرق هذه الرحلة عادةً أربع ساعات فقط، لكنها امتدت بسبب العدد الكبير من الناس الذين أجلوا إلى الشمال بحثًا عن الأمان.
منذ بداية تبادل إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تكثفت الغارات الجوية الإسرائيلية الممتدة إلى مناطق مكتظة بالسكان في جميع أنحاء لبنان، ما أسفر عن مقتل أكثر من 3,500 شخص وإصابة 15 ألفًا، سقط معظمهم خلال الأسابيع الأخيرة.
كذلك أدى النزاع إلى نزوح أكثر من 896,000 شخص معظمهم من جنوب لبنان وجنوب بيروت، بالإضافة إلى محافظة بعلبك-الهرمل، بحسب المنظمة الدولية للهجرة.
ظروف معيشية أليمة ونقص في المياه والتدفئة والصرف الصحي
انتقل معظم النازحين إلى محافظات أخرى، حيث لجأ 66 في المئة منهم إلى مناطق مثل جبل لبنان الواقع وسط البلاد، وعكار في الشمال، وشمال بيروت.
تمكّن البعض من الإقامة مع أصدقائهم أو عائلاتهم، واستأجر آخرون منازل. لكن عديدًا منهم اضطروا إلى الإقامة في ملاجئ وصلت بالفعل لسعتها القصوى، والتي تفتقر غالبًا إلى الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة والتدفئة والصرف الصحي.
وفي هذا الصدد تقول سكنة، "أنا محظوظة لأنني أقيم في منزل، لكن الكثيرين في الملاجئ، مثل بناتي وعائلاتهن وقد تشتتوا في جميع أنحاء البلاد. وجدنا مأوى هنا بفضل ابن شقيق زوجي، وهو الذي يساعدنا في دفع إيجار هذا البيت". تقول سكنة إنه أراد أن يساعد عمه، وهو يعلم أن ظروفه الصحية ستثقل عليه الإقامة في ملجأ.
أوت سكنة إلى هذا البيت إلا أنها تعاني من البرد شأنها شأن كثيرين غيرها. وتضيف، "لا يمكننا أن نتحمل تكاليف التدفئة؛ بل نكوّم البطانيات فوق بعضها".
احتياجات مهولة وهجمات على المرافق الصحية
ومع اقتراب فصل الشتاء، يتسبب غياب الاستعدادات الملائمة في الكثير من الملاجئ المكتظة إلى تعريض الناس للأمراض التي يمكن الوقاية منها. ينتشر 22 فريقًا طبيًا متنقلًا تابعًا لأطباء بلا حدود في جميع أنحاء البلاد، ويشهد أعضاؤه على إصابات بالعدوى الجلدية وأمراض الجهاز التنفسي، لا سيما بين الأطفال وكبار السن.
وفي هذا الصدد، تقول نائبة منسق الطوارئ مع أطباء بلا حدود في لبنان، إيتا هيلاند هانسن، "في ظل غياب المياه النظيفة والصرف الصحي والتدفئة المناسبَين، تتعرض صحة الناس للتهديد أكثر فأكثر. فنظام الرعاية الصحية في لبنان مجهَد أساسًا، وهذا سيزيد من الضغوطات عليه".
كذلك تسببت الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة بجعل وصول الناس إلى الرعاية الطبية أكثر صعوبة، كما أعاقت تقديمها. فمنذ منتصف سبتمبر/أيلول 2024، وثّق نظام مراقبة الهجمات على الرعاية الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية 137 هجومًا على مرافق الرعاية الصحية، حيث قُتل 226 عاملًا في القطاع الصحي وأصيب 199 آخرين أثناء تأدية عملهم منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
سكنة قلقة بشدة على زوج ابنتها المتطوع في الصليب الأحمر اللبناني.
وتقول، "الله يحميه. لقد رفض أن يغادر وأصر على البقاء لأداء واجبه، لكنني أقلق عليه يوميًا. قبل بضعة أسابيع فقط، استُهدف مستشفى قريب منه في تبنين جنوب لبنان. أنا أفكّر به طوال الوقت".
أصر على البقاء لأداء واجبه، لكنني أقلق عليه يوميًا. قبل بضعة أسابيع فقط، استُهدف مستشفى قريب منه.سكنة، امرأة تبلغ من العمر 85 عامًا نزحت جراء النزاع
ونتيجة للعنف والأضرار التي لحقت بالطرقات والمخاطر الأمنية، لا يمكن لأطباء بلا حدود أن تصل إلى الناس في بعض المناطق المتضررة في لبنان. وقد اضطررنا إلى إغلاق عيادتنا في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في ضاحية بيروت الجنوبية وتعليق الأنشطة مؤقتًا في بعلبك-الهرمل، ونقل الإمدادات الطبية من الشمال الشرقي. كما يواجه الأشخاص الأشد حاجة في هذه المناطق صعوبات أكبر في الحصول على الرعاية الصحية الأساسية، لا سيما من اعتادوا أن يتلقوا العلاج في عيادتنا.
انهيار اقتصادي ونظام رعاية صحي مجهد وحرب
تفاقمت حصيلة النزاع الدائر بفعل سنوات من المصاعب. فقد عانى لبنان من إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، ما أفقر أكثر من 80 في المئة من سكانه. وقد بدد الانهيار المالي المدخرات، وتسبب في انتشار البطالة على نطاق واسع، كما ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل صارخ.
دُفع الناس في لبنان إلى أقصى حدود طاقتهم. وفي نظر الكثيرين، حتى من يتلقون الدعم التضامني من أقاربهم أو مجتمعهم أو المعتمدون على مدخراتهم، فهذا الدعم غير مستدام وسينفد في النهاية. أما الآخرون، لا سيما اللاجئون الفلسطينيون والسوريون والعاملات والعمال المهاجرون والنازحون خارج الملاجئ القائمة بلا خدمات أساسية أو دعم، فهم يواجهون أوضاعًا أسوأ، حيث تتفاقم ظروفهم الهشة أساسًا بسبب الخوف المستمر الذي يحاصرهم.
وفي هذا الصدد تقول إيتا، "على الجهات الدولية الفاعلة أن تكثف جهودها لوقف العنف ومنع المزيد من المعاناة والخسائر البشرية في المنطقة. فالوضع الإنساني في لبنان مأساوي أساسًا ومن المتوقع أن يطول أمده. وقد يتفاقم إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة. سيصل الصابرون إلى حافة الانهيار، فهذه الظروف ليست مستدامة، وسيزداد الوضع الإنساني سوءًا. أما الأشخاص الأشد حاجة أساسًا، فسنشهد المزيد من التهديدات لصحتهم والمزيد من الخسائر البشرية".
في ظل غياب المياه النظيفة والصرف الصحي والتدفئة المناسبَين، تتعرض صحة الناس للتهديد أكثر فأكثر. فنظام الرعاية الصحية في لبنان مجهَد أساسًا.إيتا هيلاند هانسن، نائبة منسق الطوارئ مع أطباء بلا حدود في لبنان
تتأمل سكنة في الحياة التي بنتها مع زوجها، أبو علي، والذكريات التي عاشاها معًا.
تقول، "حتى وإن كانت حياة متواضعة وبضع أشجار زيتون، لكنها كانت حياتي وذكرياتي".
يشتهر الجنوب اللبناني، مسقط رأس سكنة وأبو علي، ببساتين الزيتون الغنية التي تنتج بعضًا من أفضل أنواع زيت الزيتون في البلاد. ويمثل حصاد الزيتون عملية شاقة تتوارثها الأجيال، ويوفّر مصدر الدخل الرئيسي لعديد من العائلات.
بث الانهيار الاقتصادي الغموض في حياة سكنة وغيرها في لبنان. فقد سُلب منها كل ما بنته مع زوجها. ولكن الآن وفي ظل هذه الحرب الجديدة، تعمّق هذا الشعور بانعدام اليقين، منقلبًا إلى فقد كبير. ويبدو أن ذكرياتها الغالية تتلاشى في فوضى النزوح والدمار. ومن عايشوا الأزمات العديدة في لبنان مثل سكنة يشهدون بأن الحرب لم تدمّر بيوتهم فقط، بل قضت على إحساسهم بذاتهم وغايتهم.
وتختم سكنة، "هذا الرجل الذي ترونه هنا، كان أوسم رجل في البلدة. كان يعمل في المستشفى وكانوا الناس يظنونه المدير لأناقته". يخفت صوتها وتتنهد توقًا إلى الماضي وتقول، "يا حبيب قلبي، من كان ليتخيل ما خبّأت لنا الأيام؟"
استجابة أطباء بلا حدود للأزمة الإنسانية في لبنان
في ضوء الاستجابة للتصعيد المستمر للنزاع والقصف الإسرائيلي المكثف في لبنان، أرسلت أطباء بلا حدود 22 فريقًا طبيًا متنقلًا عبر مناطق مختلفة من البلاد. تقدم هذه الفرق الإسعافات النفسية الأولية والاستشارات الطبية العامة والأدوية والدعم النفسي. كذلك توزع أطباء بلا حدود المواد الأساسية مثل البطانيات والفرش ومستلزمات النظافة، فضلًا عن توفير المياه بالشاحنات للمدارس والملاجئ حيث تجمّع النازحون. بالإضافة إلى ذلك، نقدم وجبات ساخنة ومياه شرب لمئات العائلات النازحة. كما تبرعت أطباء بلا حدود بالوقود ومستلزمات العناية بالإصابات البالغة للكثير من المستشفيات، ووفرت 1,922 كيلوغرامًا من الإمدادات الطبية ودربت أكثر من 400 عامل في القطاع الصحي على رعاية الإصابات البالغة وإدارة الإصابات الجماعية في جميع أنحاء البلاد. واعتبارًا من 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تقدم فرقنا الطبية الدعم المباشر والعملي في غرفة الطوارئ وإحدى غرف العمليات في مستشفى بعبدا (محافظة بيروت) وكذلك في المستشفى التركي (محافظة الجنوب) في غرفتي العمليات والطوارئ وقسم المرضى المقيمين.
أطباء بلا حدود هي منظمة طبيّة إنسانية دولية مستقلة تقدم الإغاثة والرعاية الصحية المجانية للأشخاص المحتاجين بلا تمييز. بدأت المنظمة عملها في لبنان لأول مرة في عام 1976، وتعمل فرقنا في البلاد من دون انقطاع منذ عام 2008.