في مقاطعة السند بجنوب باكستان، وعلى أطراف ميناء كراتشي الصاخب، تمتد منطقة مشار كولوني، وهي مستوطنة عشوائية يعيش سكانها في ظروف قاسية محفوفة بالتحديات وسط الاكتظاظ وضعف خدمات الصرف الصحي وصعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية. لطالما فاقمت هذه الظروف من أحوال المجتمع المحلي ومعاناته على الصعيد الصحي معرّضةً إياه لمختلف المشاكل الصحية.
تقدم منظمة أطباء بلا حدود خدمات الرعاية الصحية الأساسية في مشار كولوني منذ عام 2012، ولا سيما خدمات الطوارئ ورعاية الأمومة والاستشارات الصحية العامة. إلا أنّه ومع مرور الوقت، لاحظ فريق أطباء بلا حدود أنماطًا متكررة تدعو إلى القلق في عيادتنا.
وفي هذا الصدد، يقول المسؤول الطبي في المشروع، د. خوار أسلام، والذي يعمل مع الفريق منذ عام 2014، "يقصدنا الكثير من الأشخاص الذين يعانون من أعراض تشمل آلام الجسم والتعب وفقدان الشهية والحمى، إلى جانب أعراض الإصابة بالعدوى أحيانًا التي تشير إلى مشكلة صحية خطيرة".
ويضيف، "بعد التعمّق في الأمر، اكتشفنا أن الكثير من هذه الأعراض ناتجة عن التهاب الكبد الفيروسي C وهو عدوى فيروسية تؤثر على الكبد وتؤدي إلى مضاعفات خطيرة في بعض الأحيان. خلال تلك الفترة، كانت باكستان تسجّل ثاني أعلى معدّل إصابة بالتهاب الكبد الفيروسي C على مستوى العالم، وكانت قد بدأت برنامجها الوطني لمكافحته في عام 2005".
يعود انتشار هذه العدوى في باكستان بشكل أساسي إلى ضعف تعقيم المعدات الطبية وإعادة استخدام الإبر والمحاقن بطريقة غير آمنة، إلى جانب عمليات نقل الدم الملوّثة التي تقترن بمخاطر كبيرة. وتساهم بعض الممارسات الشائعة مثل الحلاقة ووضع الوشم وعمليات الثقب في انتشار الفيروس أيضًا بسبب عدم تعقيم المعدات بالشكل المطلوب في الكثير من الأحيان. علاوة على ذلك، تؤدي الزيادة في مشكلة تعاطي المخدرات عن طريق الحقن الوريدي إلى تفاقم انتشار التهاب الكبد الفيروسي C في باكستان.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تصدّرت باكستان منذ أبريل/نيسان 2024 قائمة الدول الأكثر تسجيلًا لحالات التهاب الكبد الفيروسي C في العالم، حيث بلغ عدد المصابين حوالي 8.8 مليون شخص وهو ما يمثل 44 في المئة من جميع الإصابات الجديدة بالتهاب الكبد C التي تُعزى إلى الحقن الطبية غير الآمنة. يُشار إلى أن المرضى يخضعون لفحوصات الكشف عن التهاب الكبد الفيروسي C في العادة عندما تظهر علامات تشير إلى تضرر الكبد، أي في مرحلة متأخرة جدًا في كثير من الحالات. وفي حال لم يُعالج في الوقت المناسب، قد يتطور المرض ليؤدي إلى مرض كبدي حاد أو حتى إلى سرطان الكبد.
لا يعلم العديد من الناس في مشار إصابتهم بالعدوى فقد يبقى الفيروس خاملًا لسنوات من دون إظهار أي أعراضخوار أسلام، المسؤول الطبي في المشروع
ويضيف د. أسلام، "لا يعلم العديد من الناس في مشار إصابتهم بالعدوى فقد يبقى الفيروس خاملًا لسنوات من دون إظهار أي أعراض، حتى الأشخاص الذين تمكنوا من تشخيص إصاباتهم، سواء في عيادتنا أو في أي مكان آخر، فيواجهون عقبات تعيق حصولهم على العلاج كتكاليفه الباهظة وصعوبة الوصول إلى المستشفيات البعيدة وغيرهما. يعتمد معظم السكان على مصادر دخل محدودة تشمل صيد الأسماك أو العمل بالأجر اليومي أو المشاريع التجارية الصغيرة التي تغطي بالكاد احتياجاتهم اليومية".
ويوضح، "حتى عند تدبير إحالات إلى مستشفيات أخرى، تُقدَّم الرعاية المرتبطة بالتهاب الكبد الفيروسي C إلى حاملي بطاقات هوية فقط، في حين ليس لدى معظم سكان مشار كولوني أي وثائق رسمية، فينتهي بهم الأمر من دون أي علاج".
وإدراكًا للحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات، بدأت أطباء بلا حدود برنامجًا شاملًا لتوفير خدمات الفحص والعلاج المجاني مباشرةً إلى السكان في عام 2015. وقد أُدرجت خدمات التهاب الكبد الفيروسي C في مرفق الرعاية الصحية القائم أساسًا، مما سمح لفرقنا بالوصول إلى المرضى الذين لولا ذلك لما اكتشفوا إصابتهم بالفيروس. وفي عام 2018، أوقفنا خدمات الرعاية الصحية الأساسية، وركّزنا جهودنا بالكامل على علاج المصابين بالتهاب الكبد الفيروسي C.
وفي هذا السياق، يقول جافيد علي، وهو أحد المرضى المدرَجين في هذا البرنامج، "تم تشخيص إصابة زوجتي بالتهاب الكبد الفيروسي C قبل نحو عام، وخضعت لعلاج ناجح في عيادة أطباء بلا حدود في مشار كولوني. لاحقًا، عندما بدأت أشعر بآلام في الساق والظهر إضافة إلى الإرهاق، طلبت المساعدة الطبية، وتمت إحالتي إلى العيادة ذاتها".
ويتابع، "بعد التجربة الإيجابية التي مرت بها زوجتي، قررت إجراء الفحص، لأكتشف أنني مصاب أيضًا بالتهاب الكبد الفيروسي C. خضعت لعلاج استمر ثلاثة أشهر، ولحسن الحظ، جاءت النتائج النهائية سلبية. اليوم، أنا وزوجتي بصحة جيدة".
لمعالجة الأزمة بفعالية، تبنّت أطباء بلا حدود استراتيجية استباقية ترتكز على المشاركة المجتمعية. وفي بنية بسيطة لتقديم الرعاية، تم توفير خدمات مجانية وأساسية لالتهاب الكبد الفيروسي C شملت خدمات الفحص والتشخيص والعلاج، إلى جانب التثقيف الصحي ودعم المرضى، وكل ذلك تحت سقف واحد.
وبين عامي 2022 و2024، أجرت فرق أطباء بلا حدود فحوصات واسعة النطاق من خلال جولات ميدانية على المنازل واستخدام مركبات متنقلة لإجراء الفحوصات للسكان الذين تزيد أعمارهم عن 12 عامًا في منازلهم. وساعد هذا النهج، المعروف باسم "ثني المنحنى"، في ضمان عدم إغفال أي شخص، حيث أُحيل المصابون بالفيروس لتلقي العلاج، مما أسهم بشكل كبير في الحد من انتشار التهاب الكبد الفيروسي C في المجتمع.
ويقول د. أسلام، "من خلال تقديم الخدمات المجانية في موقع واحد، سهّلنا على الناس عملية الحصول على الرعاية، إذ كان هدفنا الحد من انتشار العدوى. وقد تمكنا من الوصول إلى نحو 100 في المئة من أفراد المجتمع مما ساهم في نشر الوعي وتوفير العلاج لمن يحتاجه".
إذ كان هدفنا الحد من انتشار العدوى. وقد تمكنا من الوصول إلى نحو 100 في المئة من أفراد المجتمع مما ساهم في نشر الوعي وتوفير العلاج لمن يحتاجه.خوار أسلام، المسؤول الطبي في المشروع
وفي إطار تعزيز الوصول إلى خدمات رعاية التهاب الكبد الفيروسيC، تعاونت منظمة أطباء بلا حدود مع وزارة الصحة لتقديم الرعاية الطبية بشكل أقرب إلى المجتمع. ففي أغسطس/آب 2022، أنشأنا مرفقًا علاجيًا داخل المركز الصحي الريفي في بلدة بالديا بمنطقة كيماري في كراتشي. وضمن هذه المبادرة، تم إجراء فحوصات الكشف عن بالتهاب الكبد الفيروسي C للمرضى المحالين من أقسام العيادات الخارجية في مستشفيات بالديا، إضافةً إلى الأشخاص الذين حددهم العاملون في مجال الصحة المجتمعية. هذا وتم تنظيم تدريبات مكثفة للعاملين الصحيين المجتمعيين بهدف توعية السكان بمخاطر الإصابة بالفيروس وطرق الوقاية منه.
تلقى المرضى الذين شُخّصت إصابتهم بالتهاب الكبد الفيروسي C المزمن علاجًا لمدة 12 أو 24 أسبوعًا، وذلك بحسب مدى تقدم المرض لديهم، كما تم تقديم لقاح التهاب الكبد الفيروسي B لجميع المرضى للوقاية من الإصابة المستقبلية. يُعد هذا المركز، الذي سُلّم إلى وزارة الصحة في أغسطس/آب 2023، من المراكز البارزة لعلاج التهاب الكبد C في المنطقة، إذ يتميز بمعدّات تشخيص حديثة ويُعترف به كموقع رئيسي لرعاية التهاب الكبد في إقليم السند.
إلى جانب الحد من انتشار التهاب الكبد الفيروسيC، اضطلعت منظمة أطباء بلا حدود بدور محوري في مشار كولوني خلال جائحة كوفيد-19. فقد دعمنا حملات التطعيم في المنطقة والمناطق المجاورة، وحرصنا على تزويد السكان بمعلومات أساسية حول أعراض الفيروس وطرق الوقاية وأهمية التطعيم. كما قامت فرقنا بتوزيع الكمامات والصابون القابل لإعادة الاستخدام لمساعدة المجتمع على حماية نفسه خلال الجائحة.
ومع اختتام برنامج التهاب الكبد الفيروسيC، باتت نتائجه جلية فقد تغيّرت حياة آلاف الأشخاص وسُجّل انخفاض ملحوظ في معدل الإصابات الجديدة. ورغم أن المرض لا يزال يشكل تحديًا في مشار كولوني، إلا أن انتشاره المقلق قد تراجع بفضل حملات التوعية الواسعة والفحوصات المبكرة.
نجحت منظمة أطباء بلا حدود في تحقيق هدفها المتمثل في توعية كامل المجتمع المحلي حول التهاب الكبد الفيروسي C، مع إجراء فحوصات لأكثر من 72 في المئة من السكان. وبين عامي 2015 و2024، أجرت أطباء بلا حدود فحوصات لأكثر من 129,922 شخصًا في العيادة والمجتمع المحلي، ووفرت 64,984 استشارة طبية للكشف عن التهاب الكبد الفيروسي C في عيادتها، إلى جانب 25,553 اختبارًا تشخيصيًا لتفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR)، كما قدّمت العلاج لأكثر من 9,398 مريضًا.
ومن بين هؤلاء، أكمل 6,909 أشخاص علاجهم، في حين انقطعت متابعة 2,061 شخصًا قبل إنهاء العلاج، كما انقطع التواصل مع 176 شخصًا بعد إكمالهم العلاج، وتوفي 14 شخصًا خلال هذه الفترة. أما الخمسون شخصًا المتبقون، فلم يكملوا العلاج أو توقفت متابعتهم.
ومن بين 6,909 أشخاص أكملوا العلاج، بلغت نسبة الشفاء 93.3 في المئة مع تعافي 6,755 شخصًا، بينما لم ينجح العلاج مع 459 مريضًا. يُشكل نجاح هذه المبادرة نموذجًا يمكن الاستفادة منه وتنفيذ برامج مماثلة في المجتمعات الأخرى التي تعاني من نقص الخدمات في جميع أنحاء باكستان.
بدأت منظمة أطباء بلا حدود العمل في باكستان لأول مرة عام 1986، وتقدم حاليًا مجموعة واسعة من الخدمات الصحية في أربع مقاطعات في البلد، بما في ذلك رعاية الأم والطفل والرعاية الصحية الأساسية وعلاج اللشمانيا الجلدية والسل المقاوم للأدوية، إضافةً إلى الاستجابات الطارئة المستمرة.