بيروت – سجّلت احتياجات الناس إلى الرعاية الصحية النفسية ارتفاعًا ملحوظًا في الشهريَن التاليَين للانفجار الهائل الذي ضرب المرفأ وهزّ مدينة بيروت. في الأحياء المتضررة من الانفجار، يعاني شخصان من بين كل ثلاثة مرضى لجأوا إلى أطباء بلا حدود طلباً لاستشارات الصحة النفسية من أعراض القلق والاكتئاب، وذكر أكثر من نصف هؤلاء المرضى أن انفجار الرابع من أغسطس/آب هو السبب الكامن خلف ظهور هذه الأعراض لديهم. ومن بين المرضى الذين يعانون من حالات نفسية قائمة مسبقًا، أفاد 82 في المئة منهم بأنّ أعراضهم ازدادت حدةً منذ وقوع الانفجارتستند الإحصائيات بشأن الأعراض الواردة أعلاه إلى بيانات مستمدة من 98 مريضًا (17 في المئة منهم أطفال) تم جمعها بين 14 أغسطس/آب و30 سبتمبر/أيلول..
وفي هذا الصدد، تقول الاختصاصية النفسية في منظّمة أطباء بلا حدود، سارة تنوري، "بعد شهرَين من الانفجار، نشهد زيادةً في عدد الاستشارات". وتتابع، "على الرغم من أن العديد من الأشخاص تلقوا حتى الآن العلاج لجروحهم الجسدية وقاموا بتأمين احتياجاتهم الأساسية من ناحية السكن والكهرباء والمياه، إلا أن الكثيرين ما زالوا يبكون في الليل أو يرتعبون من أدنى صوت".
وتشمل الأعراض التي أتى مرضى أطباء بلا حدود على ذكرها نوبات الهلع والأرق وفقدان الشهية والنسيان وقلة التركيز وفقدان الاهتمام والأفكار السلبية.
وفي أعقاب الانفجار مباشرةً، افترض الكثيرون أن الانفجار ناجم عن غارة جوية إسرائيلية استهدفت بيروت، مما أعاد الذعر إلى نفوس الأشخاص الذين عاشوا أجواء مثل هذه الغارات الجوية في الماضي.
ومع اكتظاظ المستشفيات في المدينة بالجرحى بسرعة فائقة يوم الانفجار، اضطر بعض الجرحى إلى السير على أقدامهم لساعات عدة للوصول إلى مرافق طبية أخرى، ما جعلهم يرون بأم العين مدى الضرر الذي أصاب بيروت ومشهد الناس العالقين تحت الأنقاض والشوارع التي غصّت بالقتلى والجرحى.
تقول امرأة تبلغ من العمر 70 عامًا فقدت البصر في كلتا عينيها بعد إصابتها بشظايا من الانفجار إنها تتمنى الآن لو أنها لقيت حتفها. وتضيف تنوري تعليقًا على ذلك، "تقول المرأة باستمرار إنه كان ينبغي لها أن تموت في الانفجار بدلًا من الشبان والشابات الذين خسروا حياتهم".
ما يمر به الناس اليوم هو رد فعل طبيعي لأحداث غير طبيعية... يحتاج الناس إلى ما يسمح لهم بالتصالح مع الأحداث قبل أن يتمكنوا من المضي قدمًا. لسوء الحظ، كثيرًا ما نسمع من المرضى أنهم يشعرون [...] أن الحياة تمضي قدمًا وكأن شيئًا لم يكن.سارة تنوري، اختصاصية نفسية في أطباء بلا حدود
أما لدى الأطفال الذين عاينتهم فرق أطباء بلا حدود، فتشتمل الأعراض على زيادة السلوكيات العدوانية الجسدية واللفظية والتبول اللاإرادي. كما يخشى العديد من الأطفال الأكبر سنًا البقاء بمفردهم ويصرّون على النوم والأنوار مضاءة أو في سرير والدَيهم.
وتردف تنوري قائلةً، "يتحمّل بعض الأطفال الآن مسؤوليات تتجاوز أعمارهم. توجّب على صبي صغير أن يتصل بوالده ليأتي وينقذ والدته المحاصرة تحت جدار قد تداعى". أمّا مريضة شابة أخرى، فتغلّب عليها شعور بالذنب بعد إصابة أختها في حين أنه لم يلحق بها أي أذى، ويرفض مريضان شابان آخران مغادرة منزلهما منذ الانفجار خوفًا من وقوع حادث آخر مماثل.
تعتقد تنوري أن الزيادة في عدد الأشخاص الذين يلتمسون الرعاية الصحية النفسية مرتبطة أيضًا بحقيقة أنهم لم يعودوا قادرين على الاعتماد على الدعم الاجتماعي المُقدم عادةً من العائلة والأصدقاء، فهم بدورهم يتخبطون الآن بسبب الوضع في لبنان. فتقول في هذا السياق، "في الماضي في بيروت، اعتاد المجتمع والشبكات المجتمعية - العائلة والأصدقاء والجيران – أن يشكّلوا أول نقطة للدعم غير الرسمي لشخص مضطرب. ولكن اليوم، تتأثر جميع هذه الشبكات بشكل متزامن، فيلجأ الناس إلى متخصصين نفسيين".
نحن بحاجة للنظر إلى الصحة النفسية على أنها جزء لا يتجزأ من صحة الإنسان ورفاهيته. حتى لو كانت الرعاية النفسية مجالًا متخصصًا، يجب أن تصبح جزءًا من مجموعة شاملة من الرعاية التي يمكن للناس في جميع أنحاء لبنان الحصول عليها.سارة تنوري، اختصاصية نفسية في أطباء بلا حدود
وتضيف تنوري، "ما يمر به الناس اليوم هو رد فعل طبيعي لأحداث غير طبيعية. يجب أن نبدأ بربط ما يجري في البلاد بصحة الناس النفسية. من منظور الصحة النفسية، يحتاج الناس إلى ما يسمح لهم بالتصالح مع الأحداث قبل أن يتمكنوا من المضي قدمًا. لسوء الحظ، كثيرًا ما نسمع من المرضى أنهم يشعرون بعدم وجود خطة ملموسة للتعامل مع تداعيات الحادث وأن الحياة تمضي قدمًا وكأن شيئًا لم يكن. هذا أمر مضر لأنه يديم شعورهم باليأس والعجز".
وبهدف المساعدة في سد الثغرات في خدمات الصحة النفسية في لبنان، تُجري منظّمة أطباء بلا حدود حاليًا مناقشات مع البرنامج الوطني للصحة النفسية في لبنان - التابع لوزارة الصحة العامة اللبنانية- بهدف دمج دعمها في الخطة الوطنية للوزارة وضمان تحقيق استراتيجية طويلة الأمد تستجيب للزيادة في الاحتياجات النفسية.
وتختتم تنوري قائلةً، "إن الانفجار بحد ذاته حادث مؤلم يولّد آثاراً نفسية حادّة قصيرة الأجل. ولكن إذا تُركت هذه الآثار من دون معالجة، فقد تُدمر الصحة النفسية للأشخاص على المدى الطويل. نحن بحاجة للنظر إلى الصحة النفسية على أنها جزء لا يتجزأ من صحة الإنسان ورفاهيته. حتى لو كانت الرعاية النفسية مجالًا متخصصًا، يجب أن تصبح جزءًا من مجموعة شاملة من الرعاية التي يمكن للناس في جميع أنحاء لبنان الحصول عليها".
بدأت فرق منظّمة أطباء بلا حدود تقديم استشارات الصحة النفسية في أحياء بيروت المتضررة بانفجار المرفأ في 10 أغسطس/آب، وهي تتضمن الاستشارات في عيادات المنظمة، والزيارات المنزلية، والاستشارات عبر الهاتف. وبحلول 30 سبتمبر/أيلول، استقبلت المنظّمة 180 مريضًا يسعون للحصول على الدعم النفسي. 112 من هؤلاء المرضى حضروا لأكثر من استشارة، ما يعني أن العدد الإجمالي للاستشارات بلغ 292 في حوالي 7 أسابيع.