تقول سارة* متذكرة، "سمعنا صوت إطلاق المدفعية الثقيلة واستمرت طوال الصباح. وفي اليوم نفسه استقبلنا أوائل الجرحى، كانوا يصلون أفواجاً. في أول يومين استقبلنا جنوداً، وجميعهم في بداية الشباب. ثم جاء أوائل المدنيين محمَّلين في صناديق الشاحنات". عملت سارة كفنية مختبر مع أطباء بلا حدود في ميدري غينت في إقليم أمهرا بإثيوبيا، قبل أن يغيّر القتال في تيغراي القريبة مسار حياتها.
في بداية التصعيد العسكري في تيغراي أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، كان لدى أطباء بلا حدود مشاريع في أمهرا وأجزاء أخرى من إثيوبيا. إقليم أمهرا ليس بعيداً عن حميرا وهي مدينة استراتيجية في الجزء الغربي من تيغراي وقد تضررت بشدة من المعارك.
بتاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني بدأ فريقنا دعم المركز الصحي التابع لوزارة الصحة في ميدري غينت وهي بلدة نائية كان يأتيها أفواج الجرحى من المعارك في المناطق الحدودية. وفي غضون بضعة ساعات فقط اضطر فريقنا إلى التحول من أنشطة المشروع الطبية اليومية إلى الرعاية الطبية الطارئة للجرحى. وفي أسبوع واحد فقط عالجت طواقم أطباء بلا حدود ووزارة الصحة 265 مصاباً والكثير منهم إصابتهم شديدة.
تحول القتال إلى أجزاء أخرى من إقليم تيغراي وركّز فريقنا على دعم النازحين في المنطقة. غادرت سارة ميدري غينت مباشرة بعد أن هدأت المعارك الشديدة وانخفض تدفق الجرحى.
وتضيف: "عندما غادرت المشروع كان ما زال هناك إحساس بالحزن واليأس وسط فريق أطباء بلا حدود". ما مرَّ به الفريق خلال هذه الأيام الأولى من الصدامات ترك أثراً كبيراً على صحتهم النفسية.
ويقول منسق صحة الطواقم في أطباء بلا حدود كاز دي يونغ: "لقد رأوا جرحى وقتلى من الجنود والمدنيين. كان عليهم أن يفرزوا الجرحى ويتخذوا قرارات بالغة الصعوبة. كان صعباً أيضاً على طواقم التمريض الذين اضطروا للعناية بالجرحى الذين لديهم فرص أفضل بالنجاة وترك الآخرين. وهذا الأمر شاق جداً على النفس لا سيما على الذي يعمل في الميدان الطبي. كما أن منظر الدم والمعاناة والجروح غالباً ما قد يترك انطباعات مزعجة".
الوضع في تيغراي صعبٌ بشكل خاص على زملائنا الإثيوبيين الذين لديهم الكثير من القلق، فالقتال الدائر يجعلهم قلقين على مستقبلهم ومستقبل بلادهم. بعضهم لديه أقارب وأحباب بقوا في تيغراي ولم يسمعوا أخباراً منهم منذ أسابيع بسبب فقدان الاتصالات بالكامل. والكثيرين لم يسمعوا أخباراً من بعض زملائهم أيضاً.
ويقول كاز: "بعضهم كانوا زملاء لسنوات، وبين ليلة وضحاها اختفوا، أو فروا إلى بلدات أخرى أو دول مجاورة بدون إبلاغ أحد. كل يوم يرى زملاؤنا الإثيوبيون كل هؤلاء الناس الذين نزحوا بسبب القتال ويعيشون الآن في تجمعات صغيرة حولهم تكتظ بهم في ظروف سيئة للغاية. وبالطبع قبل أن يبدأ القتال كانت جائحة كوفيد-19 قد عقّدت حياتهم وحالت دون ذهاب أولادهم إلى المدرسة وزادت من عدد العاطلين عن العمل الذين عليهم أن ينفقوا على أنفسهم وعلى أسرهم".
"لا أستطيع أن أكون سعيداً، لكن قد أستطيع أن أصبح أكثر سعادة بقليل"
تقدم أطباء بلا حدود الدعم النفسي الاجتماعي لجميع العاملين معها لمساعدتهم في التأقلم مع الوضع الصادم. ويتراوح هذا الدعم من الاتصالات الهاتفية إلى الأنشطة الجسدية والنفسية في الميدان. في إثيوبيا، كما في أي سياق حرب وعنف آخر، استفادت فرقنا من جلسات فردية لمساعدتهم على التأقلم بشكل أفضل مع توترهم اليومي.
عادة ما تتم ورشات العمل الجماعية حول إدارة التوتر ضمن خمس خطوات. في البداية يُطلب من المشاركين إنشاء قائمة بجميع الأشياء التي تسبب لهم التوتر. قد تكون أشياء صغيرة، كالمشاكل الأسرية، أو أشياء أكبر كالمعارك التي تدور. ثم تختار المجموعة أهم عامل مسبب للتوتر يريدون مناقشته، إذ قد يكون من الصعب مناقشة عدة مشاكل في وقت واحد لذلك نطلب منهم التركيز على مشكلة واحدة والاستفاضة فيها كي يتمكنوا من وضع المخطط اللازم لإنجاز تحسينات. الخطوة الثالثة هي التفكير في الجوانب التي تسير على ما يرام.
ويقول كاز: "هدفنا ليس دفع المشاكل جانباً بل تشكيل نظرة شاملة. بالطبع لن يحل هذا أو يلغي الأحداث الصادمة التي وقعت، لكن النظر للأمر من منظور شامل بما في ذلك الأمور التي ما زالت تسير على ما يرام سيتيح لهم أن يروا مشاكلهم من زاوية إيجاد الحلول. يستغرق الأمر وقتاً وجهداً وشجاعة لكن الناس عادة يتمكنون من التغيير إذ أنهم لا يريدون البقاء في وضع التعاسة. في نهاية النهار يتبادر إلى ذهنهم ما مفاده: ’لا أستطيع أن أكون سعيداً، لكن قد أستطيع أن أصبح أكثر سعادة بقليل‘".
كان من المبهر كيف انتقل الفريق من التعامل مع الأنشطة السابقة إلى وضعية طوارئ مختلفة تماماً. فلو لم يتمكنوا من القيام بهذا الانتقال لما كان ممكناً رعاية وعلاج أعداد كبيرة من الناس.كاز دي يونغ، منسق صحة الطواقم في أطباء بلا حدود
الخطوتان الأخيرتان تتضمنان التفكير في كيفية تحسين الوضع ووضع خطة عمل لأنفسهم. هذه الخطوات أساسية لتقليص أثر المشكلة الرئيسية وهي الحرب. كما أن التواصل مع الأصدقاء والزملاء، ليس فقط للتحدث عن المشاكل بل أيضاً لتشارك أشياء بسيطة في حياتهم اليومية، يقلل من هذا التوتر بدرجة كبيرة.
في إقليم أمهرا، يتكون فريقنا من إثيوبيين من خلفيات مختلفة. لم يتطرقوا أبداً لهذا الجانب خلال الجلسات، بل كانوا يركزون على جانب أنهم أنقذوا حياة الناس معاً كفريق. الحراس الذين ساعدوا في تنظيم المرور، والأطباء الذين عالجوا الجروح والممرضون الذين قدموا الإسعافات الأولية، وفنيو المختبر الذين أجروا فحوص الدم.
ويقول كاز: "كل منهم كان له دوره وعملوا جميعاً معاً كآلة منسجمة. لقد عملتُ في ظروف متنوعة، وعلي أن أقول أنه كان من المبهر كيف انتقل الفريق من التعامل مع الأنشطة السابقة – علاج الكالازار والسل ولدغات الأفاعي والتجارب السريرية – إلى وضعية طوارئ مختلفة تماماً. فلو لم يتمكنوا من القيام بهذا الانتقال لما كان ممكناً رعاية وعلاج أعداد كبيرة من الناس. أفراد الطاقم فخورون بهذا الإنجاز ولهم الحق في ذلك".
* تم تغيير اسم موظفة أطباء بلا حدود بناءً على طلبها.
تعمل أطباء بلا حدود في إثيوبيا منذ عام 1984. وعلى مدى أكثر من 30 عاماً تستجيب فرقنا للطوارئ في أنحاء البلد ومن ضمنها سوء التغذية والملاريا والإسهال المائي الحاد والاحتياجات الصحية للاجئين والرعاية الصحية الأساسية. كما ندير في كل من أديس أبابا وأمهرا وغامبيلا والمنطقة الصومالية مشاريع منتظمة بالتعاون مع المؤسسات الصحية الحكومية لتوفير الرعاية الصحية العامة والتخصصية للأهالي واللاجئين والنازحين من الأمراض المدارية المهملة إضافة إلى الدعم النفسي والطبي للمهاجرين الإثيوبيين الذين رُحِّل معظمهم من السعودية والكويت ولبنان. كما طورت فرقنا أيضاً خطط طوارئ لضمان استمرارية أنشطتنا الحالية في البلد خلال جائحة كوفيد-19.