نُشر هذا المقال في صحيفة الإندبندت باللغة الإنكليزية في 24 مارس/آذار 2021.
لقد صادفت مشهدًا جديدًا في بغداد في الآونة الأخيرة: عند إحدى نقاط التفتيش في المدينة، يقف رجال بمعاطف بيضاء وكمامات من نوع N95 أمام الجنود، ويتحققون من ارتداء جميع ركاب الحافلات كماماتهم. وقد عمد بائعو السجائر، الّذين يشقون طريقهم بين السيارات المنتظرة، إلى بيع الأقنعة الجراحية كعملٍ جانبي.
لكن بعيدًا عن هذا المشهد، يصعب علينا رصد تأثير كوفيد-19 الّذي ألمّ بالمدينة. فالألم الّذي أشهده في المستشفى الذي تديره أطباء بلا حدود يخفى عن معظم الناس المتزاحمين في الشوارع. وقد تضاعفت هذه المعاناة بعد أن وقع العراق مرةً أخرى أسير موجة قاسية اتخذت من بغداد بؤرة لها.
منذ أواخر سبتمبر/أيلول، أدخلنا إلى المستشفى نحو350 مريضًا من ذوي الحالات الشديدة أو الحرجة، من بينهم120 مريضاً أدخلوا في الشهر الفائت وحده. فزدنا عدد الأسرة من 36 إلى 51 سريرًا بهدف مواجهة تدفق الحالات إلا أن معدل الوفيات يظلّ مدعاةً للخوف. فقد توفي مؤخرًا سبعة مرضى في يومٍ واحد على الرغم من الجهود الحثيثة التي يبذلها فريقنا.
أعيى التعب الطواقم الطبية وغير الطبية على حد سواء. فقد ألقت الذروة الأولى من الإصابات بظلالها طويلًا على بغداد، إذ استمرت من تمّوز/يوليو حتى نوفمبر/تشرين الثاني، واستنزفت إمداد المدينة بالأوكسيجين وتركت النظام الصحي يترنح على شفير الانهيار.
وتراجع عدد الحالات بشكل ضئيل بين ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني قبل أن يعود ليتزايد بشكل كبير في فبراير/شباط وما بعده. فارتفع عدد الحالات من 714 حالة في 31 يناير/كانون الثاني، إلى 3,428 حالة في 28 فبراير/شباط. أما يوم 25 مارس/آذار فسجّل العدد الأعلى من الحالات منذ اندلاع الجائحة – 6,513 إصابة – إلا أن هذا الرقم قد لا يعكس عدد الحالات الفعلي. لم يترك لنا الفيروس حيزًا لنلتقط أنفاسنا قبل أن نخوض غمار الموجة الثانية.
يقول د. ياسين حسن الّذي يعمل إلى جانبنا في وحدة العناية المركزة، "لقد أثر عليّ عدد الوفيات نفسيًا. لكنني أسعى إلى التغلب على الوضع من أجل المرضى الآخرين. فأستمع إلى الموسيقى أو أتحدث مع عائلتي عن هذا الوضع قبل أن أعود إلى عملي".
لقد أعطته نهاية الموجة الأولى بصيص أملٍ كاذب كان كفيلًا بصدمه بشدة. وقد أردف الدكتور ياسين قائلًا، "رُفع حظر التجول وعادت الحياة إلى المدينة، فما لبثت الأرقام أن ارتفعت بشكل كبير مرة أخرى. لقد بات الوضع محزن، إذ لا تتوفر لدينا أسرّة للجميع".
إنّه لمن الصعب ارتقاب نهاية تفشي كوفيد-19 من دون تأمين اللقاحات. فلم يصل العراق إلا 386,000 جرعة من اللقاح وهو رقم غير مؤاتٍ على الإطلاق لبلد يسكنه 40 مليون شخصًا.عمر عبيد، منسق مشروع أطباء بلا حدود في بغداد
لقد مضى عامٌ على وجودي في بغداد لمساعدة السلطات العراقية في استجابتها للفيروس. لقد بدأنا العمل في وحدة الرعاية التنفسية في مستشفى الكندي، لكننا اكتشفنا سريعاً عدم قدرة المستشفى على مواكبة أعداد المرضى المتزايدة وتأمين المتابعة الوثيقة التي يحتاجونها. فغالبًا ما لا يحضر كبار الأطباء إلى المستشفى إلا لفترة وجيزة في الصباح، بينما كان الأطباء المبتدئون مرارًا غير راغبين أو غير قادرين على اتخاذ القرارات من دونهم، ما يضعهم -ويضعنا- في موقف صعب في ظل التفشي المستمر للفيروس.
لقد افتتحنا وحدتنا الطبية الخاصة في سبتمبر/أيلول، بقدرة استيعابية من 24 سريرًا في بادئ الأمر قبل أن ننتقل إلى مبنى جديد ونوسع القدرة الاستيعابية إلى 36 سريرًا في ديسمبر/كانون الأول. لقد وجدنا طرقًا جديدة للعمل مع زملائنا العراقيين ونجحنا في خفض معدل الوفيات للحالات الحرجة والخطيرة التي نعالجها.
وفي حين يبقى المرض مميتًا وخطيرًا في أشد أشكاله، نجري تخريج 40 في المئة من المرضى من المستشفى – ما يظهر تحسناً كبيراً في معدلات النجاة بالمقارنة مع المعدل الذي شهدناه في بداية عملنا لمكافحة كوفيد-19. لكننا لم نعتقد يومًا أن بقاءنا سيدوم عامًا كاملاً بعد إطلاقنا للدعم الّذي نقدمه للنظام الصحي العراقي والذي ظننّا أنه سيكون سيكون مؤقتًا.
إنّه لمن الصعب ارتقاب نهاية تفشي كوفيد-19 من دون تأمين اللقاحات. فلم يصل العراق إلا 386,000 جرعة من اللقاح وهو رقم غير مؤاتٍ على الإطلاق لبلد يسكنه 40 مليون شخصًا. فبحسب وزارة الصحة، يعمل في البلد حوالي 216,000 من الأطباء والممرضين والمساعدين الطبيين. وقد تكفي الجرعات التي وصلت حديثًا كفيلةٌ لتلقيح بعض العاملين في القطاع الطبي، إلا أن الأطباء الّذين نعمل معهم لا يعلمون حتى الآن متى سيأتي دورهم في وقت يستمر المرض فيه بالتسلل إلى صفوف زملائنا.
وبينما يُتوقع وصول جرعات إضافية في الأشهر المقبلة، أصبحت مضاعفة الجهود ضرورةً لمساعدة العراق في الحصول على اللقاحات التي تخوّله بالتصدي للجائحة. إذ لا بد من أن يحل العراق في أولويات الجهود العالمية التي تبذل على التلقيح، كما لا بد من أن يكون أولوية في الشرق الأوسط كونه من البلدان الأكثر تضرّرًا في المنطقة.
وفي ظل نظام صحي أوهنته سنين من النزاعات وما ارتبط بها من آفات، واقتصادٍ يعاني الأمرّين أعقاب انهيار أسعار النفط، ستكافح الحكومة لتلقيح كل من يحتاجون إلى ذلك من دون تلقي مساعدة جوهرية من البلدان الأخرى في تأمين اللقاحات أو مساعدة المنظمات الدولية الأخرى في توزيعها.
وحتى يحين هذا الأوان، سنستمر في العمل على إنقاذ حياة المرضى في المستشفى، إلا أننا مدركين أن انحسار هذه الموجة لن يوازي نهايتها الفعلية حتى يأخذ العراقيون اللقاح الّذي هم بأمس الحاجة إليه.