إنها الساعة 2:30 ليلًا. الأطباء متجمعون خارج مدخل مستشفى جنين في الضفة الغربية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هدوء قصير لا تسمع فيه صوت إطلاق النار، ثم تسمع صوت رجال يصرخون وصوت احتكاك الإطارات بالأرض، تعبر مركبة تُكتك ذات ثلاث عجلات بوابات المستشفى. وسرعان ما تبدأ حزمة الجثث المغطاة بالدماء على ظهر التُكتك في الظهور.
يُحمَل شبّان قد ثقبت رصاصات بطونهم وأسفل أفخاذهم على النقالات ويُدفعون إلى غرفة الطوارئ، حيث يتم فحصهم وتضميدهم ونقلهم على وجه السرعة إلى غرفة العمليات.
وفي هذا الصدد، يقول طبيب وحدة العناية المركزة في أطباء بلا حدود، الدكتور بيدرو سيرانو، "معظم الجرحى الذين نستقبلهم أصيبوا بأعيرة نارية في البطن والساقين. بعضهم تهشم كبده وطحاله بينما يعاني البعض الآخر إصابات وعائية خطيرة".
ويضيف، "كانت هناك حالة مؤسفة للغاية، لرجل كان يسير أمام مدخل المستشفى مباشرة عندما أطلق قناص النار عليه في رأسه. العنف مستمر ومعظم الجرحى الذين نستقبلهم يعانون من إصابات تهدد حياتهم".
منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر، كان هناك انتشار مفرط للعنف في جميع أنحاء الضفة الغربية. ففي جنين، يستدعى أطباء الطوارئ في أطباء بلا حدود إلى المستشفى العام كل ليلة تقريبًا، حيث تضرب التوغلات الإسرائيلية بالدبابات والقوات البرية المدينة. خلال الشهر الماضي، قتلت القوات الإسرائيلية 30 شخصًا وأصابت 162 آخرين على الأقل في مدينة جنين وحدها.
ويتعين على المسعفين المحليين في مخيم جنين للاجئين استخدام التكتك، الذي تبرعت به منظمة أطباء بلا حدود، للتنقل عبر الأزقة الضيقة للمخيم لنقل الجرحى. وغالبًا ما تغلق القوات الإسرائيلية مدخل المخيم، ما يجعل من المستحيل تقريبًا على عربات الإسعاف الدخول والخروج مع الجرحى ذوي الحالات الخطرة في الوقت المناسب لإنقاذ حياتهم.
خارج المستشفى، توجد سيارة إسعاف مخترقة بثقوب الأعيرة النارية، وحولها مجموعة من المسعفين الذين يحدقون بذهول في الليل الصاخب. يقول أحدهم إنهم تعرضوا لإطلاق النار أثناء محاولتهم الوصول إلى الجرحى في المخيم، مما أجبرهم على إخلاء سيارة الإسعاف والاحتماء على الأرض لمدة 20 دقيقة حتى مغادرة القوات الإسرائيلية.
معظم الجرحى الذين نستقبلهم أصيبوا بأعيرة نارية في البطن والساقين. بعضهم تهشم كبده وطحاله بينما يعاني البعض الآخر إصابات وعائية خطيرة.د. بيدرو سيرانو، طبيب وحدة العناية المركزة في أطباء بلا حدود
يمكن رؤية أثر الدمار ليس فقط من خلال الأشخاص الذين أصيبوا بطلقات نارية وشظايا في مستشفى جنين، ولكن أيضًا في المدينة نفسها، حيث دُمّرت البنية التحتية والمباني الفلسطينية الرمزية بواسطة الجرافات والدبابات.
لا تقتصر التوغلات والحوادث العنيفة على جنين فحسب. ففي أنحاء الضفة الغربية، قُتل 165 فلسطينيًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وأصيب أكثر من 2,400*، وفقًا للسلطات الفلسطينية.
وفضلاً عن ذلك، فإن ما يصل إلى 6,000 من سكان غزة الذين كانوا يعملون في إسرائيل قبل الحرب وجدوا أنفسهم الآن يعيشون في مراكز نزوح في أنحاء الضفة الغربية إذ أُلغيت تصاريح عملهم منذ ذلك الحين، وفقًا لوزارة العمل الفلسطينية.
وتزور فرق أطباء بلا حدود مراكز النزوح هذه للتبرع بالإمدادات الطبية، بما في ذلك أدوية الأمراض غير المعدية، وتقدم الدعم النفسي. وقد أخبر بعض المرضى موظفي أطباء بلا حدود أنهم تعرضوا للضرب والإذلال وسوء المعاملة أثناء احتجازهم من قبل القوات الإسرائيلية في الأسابيع التي تلت 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وفي هذا السياق، يقول مدير أنشطة الصحة النفسية في منظمة أطباء بلا حدود في جنين، يانيس أناغنوستو، "عالجنا بعض المرضى الذين بدت عليهم علامات التقييد والضرب، وقد أفادوا أن القوات الإسرائيلية هي من فعلت ذلك. أبلغوا عن تعرضهم للتعذيب لعدة ساعات قبل تركهم على حدود الضفة الغربية".
العنف والنزوح القسري
في محافظة الخليل، في جنوب الضفة الغربية، أثّر العنف الذي تشارك فيه القوات الإسرائيلية والمستوطنون والتهجير القسري والقيود المفروضة على تحركات الناس على كل جانب من جوانب الحياة اليومية للفلسطينيين. أخبر السكان المحليون فرق أطباء بلا حدود، التي عملت في المنطقة منذ عام 2001، كيف يشعرون بعدم الأمان حتى أثناء السير في شوارعهم وكيف يتم تقييد وصولهم إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك أسواق المواد الغذائية والرعاية الصحية.
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، لم يكن أمام 111 عائلة فلسطينية على الأقل، تضم نحو 905 أشخاص، خيارًا سوى مغادرة منازلهم في الضفة الغربية بسبب العنف والترهيب من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين، وفقًا للأمم المتحدة.
ففي تلال الخليل الجنوبية، أُجبرت عائلتان من بين عشرات العائلات التي نزحت من منازلها على المغادرة بعد أن أحرق المستوطنون منزليهما، وسرقوا الألواح الشمسية وبراميل المياه، وقطعوا أنابيب الماء. واستجابت فرقنا من خلال توفير الرعاية الصحية النفسية ومستلزمات النزوح للمتضررين.
كما تزود فرق أطباء بلا حدود المتمركزة في الخليل العائلات بمواد الإغاثة الأساسية، بما في ذلك البطانيات والفرش والمدافئ، بالإضافة إلى تقديم الدعم النفسي للأشخاص الذين تعرضوا للعنف أو هُجّروا قسرًا من منازلهم.
معاناتنا اليوم، هي أننا بعيدون عن أطفالنا وعائلاتنا. نتحدث مع أبنائنا في غزة ونبكي. أتمنى أن يعيدوني إلى غزة حيث يوجد أولادي وأحفادي. معاناتنا هي أننا عاجزون، ولا يمكننا فعل أي شيء.زهير، غزي نازح في الضفة الغربية
وتقول مشرفة التوعية الصحية في أطباء بلا حدود في الخليل، مريم قبس، "أخبرتني إحدى النساء التي احترق منزلها بالكامل، مدى شعورها بعدم الأمان والخوف. فتقول ’لم أفكر أبدًا في مغادرة أرضي أو منزلي بهذه الطريقة، لكن لا يمكنني المخاطرة بأبنائي وعائلتي. لا أرى مستقبلاً، وأشعر بالعجز والضعف‘. وهذه ردود فعل طبيعية تمامًا لمثل هذه الظروف غير الطبيعية، حيث يواجه الناس عنفًا شديدًا وانعدام الأمن".
تدعو منظمة أطباء بلا حدود السلطات الإسرائيلية إلى ضبط النفس في الضفة الغربية، ووضع حد للعنف والتهجير القسري للفلسطينيين، والتوقف عن تنفيذ التدابير التقييدية التي تعيق قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الطبية. ومع استمرار القصف والعقاب الجماعي للناس في غزة بلا هوادة، وامتداد غياب القانون وسفك الدماء إلى الضفة الغربية، أصبحت الحاجة إلى وقف إطلاق النار والهدنة الإنسانية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
يتابع زهير، كغيره من الغزيين النازحين في أنحاء الضفة الغربية، الأحداث في غزة من قاعة رياضية مزدحمة في جنين حيث ينام هو ومئات العمال النازحين الآخرين.
فيقول، "معاناتنا اليوم، هي أننا بعيدون عن أطفالنا وعائلاتنا. نتحدث مع أبنائنا في غزة ونبكي. أتمنى أن يعيدوني إلى غزة حيث يوجد أولادي وأحفادي. معاناتنا هي أننا عاجزون، ولا يمكننا فعل أي شيء".