أدّت سنواتٌ من الحرب في جنوب السودان الذي يعاني كذلك من تداعي النظام الصحي إلى حرمان الكثير من الناس من علاج الأمراض المعدية المزمنة كالسل، حيث تسجل البلاد كلّ عام حوالي 14,000 إصابة حسبما أفادت منظمة الصحة العالمية.
أما في الجارة السودان، فإن عدد الإصابات المسجلة أعلى ويبلغ 20,000 إصابة، مع أن عدد سكان السودان يبلغ أربعة أضعاف سكان جنوب السودان. ويؤدي السل إذا لم يعالج إلى إضعاف المريض بشدة وقد يكون قاتلاً. كما أنه يعدّ من بين أشيع عشرة أسباب للوفاة حول العالم.
وقد قامت منظمة أطباء بلا حدود خلال الأعوام الأخيرة بإدراج خدمات تشخيص وعلاج السل في بعض من برامجها الطبية في السودان وجنوب السودان بهدف الإسهام في التصدي لهذا المرض وعلاج اللاجئين والنازحين والسكان المحليين. يشار إلى أن تشخيص السل قد تحسّن وبات أسرع بفضل أدوات جديدة ومبتكرة تشمل تقنيات التصوير بالأمواج فوق الصوتية في نقطة الرعاية (Pocus) واختبار جين إكسبرت (GeneXpert).
لكن بغياب التشخيص المناسب، فإن المصابين بالسل قد يحصلون على علاج خاطئ يحول دون تعافيهم من المرض. كما أن الأوضاع المضطربة التي تشهدها المنطقة في ظل النزاع الذي يدفع الناس بشكل متكرر إلى النزوح من مكان إلى آخر، قد تؤدي كذلك إلى انقطاع مرضى السل عن علاجهم، مما يزيد مخاطر تطوير المقاومة لأدوية السل في أجسادهم.
وفيما يلي يصف مرضى وطواقم أطباء بلا حدود في منطقة أعالي النيل في جنوب السودان وولاية النيل الأبيض في السودان التحديات التي يواجهونها والنجاحات التي حققوها في علاج السل في سياقٍ يشهد صعوبات جمّة.
"لقد تعافيت الآن. بإمكاني أن أمشي بسهولة وقد عادت إليّ صحّتي"
جون جيميس، عمره 28 عاماً، من ملكال في جنوب السودان. وصل إلى السودان لاجئاً عام 2017 والتمّ شمله بعائلته التي كانت قد فرّت سابقاً خلال الحرب الدائرة في البلاد. تشير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى وجود حوالي 250,000 لاجئ من جنوب السودان يعيشون في ولاية النيل الأبيض، علماً أن معظمهم يقيم في مخيمات مثل الكشافة.
"كنت أسعل طيلة الوقت ولم أكن أنام جيداً. ذهبت أكثر من مرة إلى المركز الصحي في مخيم جوري للاجئين. أعطوني أدويةً لكن حالي لم يتحسن. عاينني الطبيب ثلاث مرات أو أكثر، لكن وزني استمر في الهبوط.
أخذني أهلي إلى مستشفى أطباء بلا حدود في الكشافة. وحين وصلت إلى هناك كنت عليلاً جداً ولم أكن أنام الليل. أحضروني إلى المستشفى وأنا فاقدٌ الوعي وكان وزني وقتئذٍ 45 كيلوغراماً. أخذوا عينةً من البلغم وتأكدت إصابتي بالسل.
لقد تعافيت الآن. عدت بعد شهرين إلى المستشفى حيث أخذوا عينة ثانية من البلغم. عندها كان وزني قد وصل إلى 54 كيلوغرام وكان مستمراً في الصعود.
غيّر الطبيب دوائي لأبدأ المرحلة الثانية من العلاج. وأنا اليوم أتناول دوائي، وبإمكاني أن أمشي بسهولة وقد عادت إليّ صحّتي. إنني سعيدٌ جداً إذ لم أتوقع أن أتعافى بهذه السرعة".
"أدى النزاع إلى انقطاع الكثير من مرضى السل عن علاجهم"
يعمل يومو أروب مشرفاً على أنشطة السل وفيروس نقص المناعة البشري مع منظمة أطباء بلا حدود في ولاية النيل الأبيض، السودان.
"كانت هناك حالات إصابة بالسل في السودان قبل مجيء اللاجئين من جنوب السودان، لكن ظروف اللاجئين المعيشية التي تتسم بالفقر والاكتظاظ، في ظل غياب المياه النظيفة وسوء شروط النظافة، قد شكلت بيئة مثالية لانتشار بعض الأمراض.
وحين اندلعت أزمة جديدة سنة 2017 في شمال شرق جنوب السودان، وقعت خلالها معارك عنيفة دفعت بآلاف السكان إلى عبور الحدود إلى ولاية النيل الأبيض المجاورة لهم في السودان. وقد استقر معظم القادمين الجدد في مخيم خور الورل للاجئين.
أخضعنا القادمين الجدد لفحوصات أولية أكدت إصابة بعضهم بالسل. كان بعض المرضى يتلقون العلاج في جنوب السودان، لكن النزاع والنزوح أديا إلى انقطاع الكثيرين عن العلاج. فقد أمضى بعضهم ستة أو ثمانية أسابيع بدون علاج. وهنا قام عمال التوعية الصحية بتحديد المرضى المحتملين وإحالتهم إلى مستشفانا في مخيم الكشافة للاجئين.
فقد كان من المهم إعادة بدء علاجهم لمنع انتشار المرض، خاصة وأن وجود المرضى في أماكن مكتظة قد يؤدي إلى انتشاره بين الآخرين لدرجة أنه قد يصيب جميع أفراد الأسرة في بعض الحالات. كما لا بد من توزيع العلاجات الوقائية على أهل المريض.
يمكن أن يؤدي السل إذا لم يعالج بالشكل المناسب إلى مشاكل عدة كانعدام القدرة على المشي وفقدان الشهية والسعال والوهن والحمّى والموت. كما أن سوء استخدام المضادات الحيوية قد يؤدي إلى تطوير مقاومة للأدوية لدى المريض. لكننا ولحسن الحظ لم نكتشف سوى حالة واحدة من هذا النوع في عام 2018".
"يأتينا مرضى معتلّون وتظهر عليهم الأعراض منذ مدة طويلة"
سيمون داو عمره 42 عاماً ويعمل مشرفاً على الأنشطة السريرية لمرضى فيروس نقص المناعة البشري والسل مع منظمة أطباء بلا حدود في مسقط رأسه ملكال في جنوب السودان. يعيش في موقع حماية المدنيين في ملكال التابع للأمم المتحدة نحو 29,000 نازح، وهناك تبلغ معدلات السل ثلاثة أضعاف المعدل الوطني.
"السل منتشر جداً في جنوب السودان وقد شهدت أعداد الإصابات زيادة على مرّ السنوات، حيث أذكر إصابة أحد أعمامي بالحمى والسعال قبل بضعة أعوام، في 2011. أعطيناه حينها الأموكسيسيلين والباراسيتامول لكن وضعه لم يتحسن على الإطلاق وفي نهاية المطاف فارق الحياة.
وحين انضممت لاحقاً إلى أطباء بلا حدود زادت معارفي حول المرض، وصرت مقتنعاً بأنه كان يعاني من السل. لكن الكثير من الناس يفارقون الحياة نتيجةً لغياب المرافق الصحية المناسبة والكافية ونقص المعرفة. كما أن هناك أجزاء من جنوب السودان تفتقر لأي برامج معنية بمكافحة السل.
عندما يأتينا مريض يشتبه أنه مصاب بالسل، فإنني أطرح عليه مجموعة من الأسئلة النموذجية: ’هل تعاني من ارتفاع في درجة الحرارة؟ هل تشكو من السعال؟ هل نقص وزنك؟ متى بدأت تشعر بالاعتلال؟ من هم الأشخاص الذين خالطتهم؟ هل عولجت سابقاً من السل؟‘.
وبعد أن آخذ التاريخ بالكامل، أضع المريض في العزل إن كان معتلّاً بشدة وآخذ منه عينة بلغم. فإذا جاءت نتيجة التحليل إيجابية وكان مصاباً بالسل، بدأنا بعلاجه. يأتينا مرضى معتلون جداً وتظهر عليهم الأعراض منذ مدة طويلة. ربما ذهبوا في بادئ الأمر إلى مرافق خاصة لا تملك القدرة على تشخيص السل. كما يأتينا بعض المرضى وهم في المراحل النهائية للسل، وهم على وشك الانهيار.
عندما نشكّ بالسل فإننا نعتمد على تقنية الأمواج فوق الصوتية في نقطة الرعاية أو Pocus التي تساعدنا في كشف بعض العلامات الأساسية على الإصابة بالسل كالانصباب التاموري أو الجنبي أو العقد اللمفية. يمكننا كذلك استخدام هذه التقنية لأغراض أخرى في طب الأطفال والجراحة، فهي تعيضنا عن التصوير الشعاعي كما أنها أكثر عملية وأسهل استخداماً. وهذا له أهمية خاصة في المناطق النائية التي غالباً ما تعمل فيها أطباء بلا حدود.
يمكننا أن نستعين لاحقاً بعينة من السوائل، وتحديداً البلغم، لتأكيد الإصابة باستخدام جهاز جين إكسبرت (GeneXpert) الذي يعتمد على تقنية تضخيم الحمض النووي ويمكنه أيضاً كشف الأشكال المقاومة للسل، علماً أن النتائج تظهر بسرعة بالغة خلال ساعتين فقط.
هذه المعدات مفيدة جداً، إذ لم يكن لدينا سابقاً سوى المجهر العادي وكنا نضطر إلى إرسال العينات لتأكيد الإصابة في المختبر، الأمر الذي يستغرق عدة أيام ويتطلب عملية معقدة. لكن الأمور اليوم أصبحت أسرع وأكثر فعالية".
بدأت منظمة أطباء بلا حدود في منتصف التسعينات بعلاج مرضى السل في جنوب السودان، حيث انطلقت أولى برامجها في لير والناصر عام 1994 ولاحقاً في لانكين عام 2006. وقد قامت فرق المنظمة بين عامي 2013 و2019 بعلاج 10,139 مريضاً بالسل في جنوب السودان، أي بمعدل 1,450 مريض سنوياً. أما اليوم، فتقدم فرق أطباء بلا حدود العلاج في أغوك وملكال وأولانق وبنتيو ولانكين. وقد قامت الفرق بين عامي 2017 و2019 بعلاج 919 مريضاً في ولاية النيل الأبيض في السودان، أي بمعدل يزيد عن 300 مريض كل عام.