يجري احتجاز المهاجرين واللاجئين في ليبيا قسرياً ويُحبسون في مراكز احتجاز غير منظمة ولا تضمن حصول من فيها على الرعاية الصحية، حيث أن المساعدات الطبية تأتي عن طريق عدد قليل جداً من المنظمات الإنسانية على غرار أطباء بلا حدود أو وكالات الأمم المتحدة التي تستطيع العمل في البلاد رغم انتشار العنف وغياب الأمن.
لكن العمل ضمن نظام احتجاز مؤذٍ واستغلالي يعني أن ثمة دائماً خطر إحداث ضرر، الأمر الذي يمثل تحديات أخلاقية أمام عمال الإغاثة. وتواجه منظمة أطباء بلا حدود عدداً من المعضلات فيما يتعلق بمسائل على غرار استقلالية العمل والوصول إلى المرضى والقبول والقيود المفروضة على استجابتنا لاحتياجات المرضى.
بدايةً فإن الوصول غير المشروط يمثل تحدياً كبيراً في مرافق أشبه بالسجون يعتمد فيها تنفيذ الأنشطة الطبية على موافقة السلطات المسؤولة عن الاحتجاز. ففي ليبيا الممزقة تكون بعض مراكز الاحتجاز خاضعةً لسيطرة وزارة الداخلية بحزم أكثر من غيرها. وتكون المجموعات المسلحة والميليشيات التي تسيطر على منطقة ما مسؤولة بحكم الواقع عن المراكز الواقعة في تلك المناطق. وفيما تتحول موازين القوى تتحول معها إدارة مراكز الاحتجاز التي يمكن أن تتغير بسرعة وبشكل غير متوقع من يوم إلى آخر. كل هذا في ظل حدود غير واضحة المعالم بين السلطات وشبكات التهريب التي يتحدث عنها أكاديميون ومراقبون منذ وقت ’الله وحده يمكن أن يوقف المهربين‘: فهم شبكات تهريب البشر في ليبيا، تقرير CRU، فبراير/شباط 2017. .
وأطباء بلا حدود مضطرة للتفاوض للوصول إلى المحتجزين داخل تلك المراكز ويتعين عليها علاج المرضى بوجود حراس مسلحين. ولا يُمنح المسعفون دائماً كامل الحرية في فرز المرضى أو التقرير بشكل مستقل حول من منهم سيخضع للفحص والعلاج. كما أن بعض مراكز الاحتجاز تمنع من يوجد فيها من رؤية طواقم أطباء بلا حدود. وبغياب سجلات رسمية أو مناسبة فإنه حالما يطأ الأشخاص أرض مركز الاحتجاز يستحيل تعقب ما يحدث لهم، وهذا أمرٌ يجعل من عملية مراقبة ومتابعة المرضى في غاية الصعوبة، إذ أنه بين يوم وليلة يمكن أن يتم تحويلهم بين مراكز احتجاز مختلفة أو نقلهم إلى مواقع لا يُفصَح عنها، علماً أن بعض المرضى يختفون دون أثر.
ولهذا أثر واضح في جودة الرعاية الطبية التي تستطيع منظمة أطباء بلا حدود توفيرها. وفرقنا الطبية قلقة حيال انتقال الأمراض السارية داخل مراكز الاحتجاز، بالأخص نتيجة الانقطاع المستمر لعملية إعطاء الأدوية لمرضى السل، إذ حين يُترك السل دون علاج أو حين ينقطع العلاج، فإنه يمكن أن ينتشر ويصبح مقاوماً للأدوية. وهذا يمثل خطراً حقيقياً على الصحة العامة سواء داخل أو خارج مراكز الاحتجاز.
ثانياً، حين يتم منح المنظمة إذن الدخول فإن هناك خطر أن تظهر منظمة أطباء بلا حدود بمظهر المشارك في نظام الاحتجاز، فحضور طواقم المنظمة قد يبدو وكأنه إضفاء مسحة من الاحترام والشرعية على نظام يحتجز فيه الناس قسرياً دون تحكيم القانون ويتعرضون للأذى والاستغلال. ولتجنب هذا فقد دعت منظمة أطباء بلا حدود علناً إلى إنهاء الاحتجاز التعسفي للاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين في ليبيا وقد أدانت سياسات الهجرة التي تتبعها الحكومات الأوروبية لإقفال سواحل ليبيا و’احتواء‘ الناس في بلد يعانون فيه من مستويات خطيرة من العنف والاستغلال.
ثالثاً فإن فائدة وفاعلية تدخلات المنظمة محدودة حين يكون السياق هو ذاته سبب المشاكل التي يسعى المسعفون إلى التصدي لها. فمنظمة أطباء بلا حدود غالباً ما تعالج محتجزين من التهابات المجاري التنفسية والإسهالات المائية الحادة والأمراض الجلدية والتهابات المسالك البولية، وهي مشاكل طبية تنتج أو تتفاقم جراء نقص المساعدة الطبية المستمرة والوافية ونتيجة الظروف التي يعيشونها داخل مراكز الاحتجاز التي تخلو خلواً تاماً من الإنسانية أو الكرامة.
هذا وإن عمليات التدخل الواسعة التي تتصدى للمعدلات المرتفعة من الالتهابات الجلدية والإصابات بالجرب والقمل والبراغيث لا تقدم سوى إغاثة مؤقتة حيث أن الفرش والأسرّة داخل مراكز الاحتجاز سرعان ما ستتلوث مرة أخرى. وتقوم طواقم المنظمة بإحالة المرضى إلى مستشفيات خاصة وفقاً لاشتراطات السلطات بإعادتهم إلى مركز الاحتجاز فور إتمام علاجهم، كما أن النساء اللواتي كن قد أُحِلن إلى المستشفيات وهن حوامل، يجب أن يُعَدن إلى مراكز الاحتجاز برفقة مواليدهن.
للاحتجاز القسري أثر مباشر على الصحة النفسية، إذ أن الناس يُحتجزون دون أن يعلموا ما إذا كانت لمعاناتهم نهاية ومتى هذه النهاية. فهم قلقون وخائفون مما سيحل بهم ويستميتون كي يخبروا أحباءهم بأنهم لا يزالون على قيد الحياة، إلا أنهم غير قادرين على ذلك لأنهم عملياً دون أي اتصال مع العالم الخارجي. تراود العديد من المرضى أفكار بالانتحار وصعوبة في النوم وتظهر عليهم أعراض متلازمة التوتر التالي للصدمة ويعانون من نوبات الهلع والاكتئاب والقلق. وكثيراً ما ترى طواقم المنظمة مرضى يعانون من مشاكل طبية نفسية وبحاجة إلى الرعاية في المستشفى وغالباً ما تكون المشاكل مرتبطة بالاحتجاز في تلك الظروف أو أنها تتفاقم نتيجة لها.
يشار إلى أن عدداً هائلاً من اللاجئين والمهاجرين وطالبي اللجوء المحتجزين قد عانوا من مستويات خطيرة من العنف والاستغلال في ليبيا وخلال رحلتهم المرعبة قادمين من أوطانهم. هناك الكثير من ضحايا العنف الجنسي والتهريب والتعذيب وسوء المعاملة. ومن بين الفئات الأكثر ضعفاً هناك الأطفال (بعضهم دون أحد والديه ودون أي مرافق)، والنساء الحوامل والمرضعات، والمسنون، وأولئك الذين يعانون من إعاقات عقلية أو مشاكل طبية خطيرة. ورغم الضعف والحاجة إلى الحماية إلا أن خيارات مساعدتهم محدودة وغالباً ما لا يوجد مكان آمن يذهبون إليه.
وبتوفير الرعاية الصحية الأولية في عيادات متنقلة منتظمة أو خدمات إحالة المرضى التي من شأنها أن تنقذ حياتهم، فإن فرقنا تعمل على تحسين مستوى توفر الرعاية الطبية وتخفيف المعاناة. وإضافة إلى الوصول للناس الذين يعانون فإن المنظمة تهدف إلى التوعية بالعنف واللاإنسانية التي يعانونها في ظل سياسات الهجرة الأوروبية التي يزداد تهديدها لحياة الناس والمتبعة لاحتواء تدفق الهجرة ودفع الناس بعيداً عن الأنظار. لكننا سنستمر في تقييم الوضع ومدى منافع عملياتنا في ليبيا مقارنة بمثالبها، فيما سنبقى شفافين حيال التنازلات التي ينبغي لنا أن نقدمها والقيود المفروضة على الرعاية الطبية التي يمكننا أن نقدمها في مثل هذه الظروف الصعبة والمقيِّدة.